جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء فرد الله سبحانه مزعمتهم بأنها تنافي عموم القدرة ، وقد تقدم الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى : « ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ » الآية : ( البقرة : ١٠٦ ) في الجزء الأول من الكتاب.
( كلام في طريق التفكر الذي يهدي إليه القرآن وهو بحث مختلط )
مما لا نرتاب فيه أن الحياة الإنسانية حياة فكرية لا تتم له إلا بالإدراك الذي نسميه فكرا ، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر أن الفكر كلما كان أصح وأتم كانت الحياة أقوم ، فالحياة القيمة ـ بأية سنة من السنن أخذ الإنسان ، وفي أي طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الإنسان ـ ترتبط بالفكر القيم وتبتني عليه ، وبقدر حظها منه يكون حظها من الاستقامة.
وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوعة كقوله : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » : ( الأنعام : ١٢٢ ) ، وقوله : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ » : ( الزمر : ٩ ) ، وقوله : « يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ » : ( المجادلة : ١١ ) وقوله : « فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ » : ( الزمر : ١٨ ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا تحتاج إلى الإيراد. فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح وترويج طريق العلم مما لا ريب فيه.
والقرآن الكريم مع ذلك يذكر أن ما يهدي إليه طريق من الطرق الفكرية ، قال تعالى : « إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » : ( إسراء : ٩ ) أي الملة أو السنة أو الطريقة التي هي أقوم ، وعلى أي حال هي صراط حيوي كونه أقوم يتوقف على كون طريق الفكر فيه أقوم ، وقال تعالى : « قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : ( المائدة : ١٦ ) والصراط المستقيم هو الطريق البين الذي لا اختلاف فيه ولا تخلف أي لا يناقض الحق المطلوب ، ولا يناقض بعض أجزائه بعضا.