لرءوس الآي ، انتهى.
قوله تعالى : « وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا » (إلخ) ، متمم للكلام في الآية السابقة ، والحسبان هو الظن ، والفتنة هي المحنة التي تغر الإنسان أو هي أعم من كل شر وبلية ، والعمى هو عدم إبصار الحق وعدم تمييز الخير من الشر ، والصمم عدم سماع العظة وعدم الإعباء بالنصيحة ، وهذا العمى والصمم معلولا حسبانهم أن لا تكون فتنة ، والظاهر أن حسبانهم ذلك معلول ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بكونهم من شعب إسرائيل وأنهم أبناء الله وأحباؤه فلا يمسهم السوء وإن فعلوا ما فعلوا وارتكبوا ما ارتكبوا.
فمعنى الآية ـ والله أعلم ـ أنهم لمكان ما اعتقدوا لأنفسهم من كرامة التهود ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا فأعمى ذلك الظن والحسبان أبصارهم عن إبصار الحق ، وأصم ذلك آذانهم عن سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم.
وهذا مما يرجح ما احتملناه أن الآيات كالحجة المبينة لقوله : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا » (الآية) فمحصل المعنى أن الأسماء والألقاب لا تنفع أحدا شيئا فهؤلاء اليهود لم ينفعهم ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بالتسمي بل أعماهم وأوردهم مورد الهلكة والفتنة لما كذبوا أنبياء الله وقتلوهم.
قوله تعالى : « ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ » التوبة من الله على عباده رجوعه تعالى بالرحمة إليهم ، وهذا يدل على أن الله سبحانه قد كان بعدهم من رحمته وعنايته ولذلك أخذهم الحسبان المذكور ولزمهم العمى والصمم ، لكن الله سبحانه رجع إليهم ثانية بالتوبة فرفع هذا الحسبان عن قلوبهم ، والعمى والصمم عن أبصارهم وآذانهم ، فعرفوا أنفسهم بأنهم عباد لا كرامة لهم على الله إلا بالتقوى ، وأبصروا الحق وسمعوا عظة الله لهم بلسان أنبيائه فتبين لهم أن التسمي لا ينفع شيئا.
ثم عموا وصموا كثير منهم ، وإسناد العمى والصمم إلى جمعهم أولا ثم إلى كثير منهم ـ بإتيان كثير منهم بدلا من واو الجمع ، أخذ بالنصفة في الكلام بالدلالة على أن إسناد العمى والصمم إلى جمعهم من قبيل إسناد حكم البعض إلى الكل ، والواقع أن