والجودة والرداءة ، والاستقامة والانحراف.
فهذا كله مما لا شك فيه ، وقد قرر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ » : الزمر : ٩ ، وقوله تعالى : « فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ » : النجم : ٣٠ ، وقوله تعالى : « فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً » : النساء : ٨٧ ، وقوله تعالى في ذيل الآية ٧٥ من المائدة (وهي من جملة الآيات التي نحن فيها) : « انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ».
ومن أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهمي اختلاف أفهام الناس في تلقي معنى توحده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم والنوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتفاق على ما تعطيه الفطرة الإنسانية بإلهامها الخفي وإشارتها الدقيقة.
فقد بلغ فهم آحاد من الإنسان في ذلك أن جعل الأوثان المتخذة ، والأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة حتى من نحو الأقط والطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله ، وقرناء له ، يعبد كما تعبد هؤلاء ، ويسأل كما تسأل هؤلاء ، ويخضع له كما يخضع لها ، ولم يلبث هذا الإنسان دون أن غلب هذه الأصنام عليه تعالى بزعمه ، وأقبل عليها وتركه ، وأمرها على حوائجه وعزله.
فهذا الإنسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لآلهته التي خلقها بيده ، أو خلقها إنسان مثله بيده ، ولذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كل واحد من أصنامهم ، وهي الوحدة العددية التي تتألف منها الأعداد ، قال تعالى : « (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) : ص : ٦.
فهؤلاء كانوا يتلقون الدعوة القرآنية إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العددية التي تقابل الكثرة العددية كقوله تعالى : « وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » : البقرة : ١٦٣ وقوله تعالى : « هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ »