أما الأول فلأن الله سبحانه وإن قص في كلامه كثيرا قصص الأنبياء وأممهم غير أن المقام خال عن ذلك فلا موجب لذكر هذا النعت له وتوصيفه تعالى به.
وأما الثاني فلأن محصل معناه أن سنته تعالى أن يتبع الحق ويقتفي أثره في تدبير مملكته وتنظيم أمور خليقته ، والله سبحانه وإن كان لا يحكم إلا الحق ولا يقضي إلا الحق إلا أن أدب القرآن الحكيم يأبى عن نسبة الاتباع والاقتفاء إليه تعالى ، وقد قال تعالى فيما قال : « الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ » : ( آل عمران : ٦٠ ) ولم يقل : الحق مع ربك ، لما في التعبير بالمعية من شائبة الاعتضاد والتأيد والإيهام إلى الضعف.
( كلام في معنى حقيقة فعله وحكمه تعالى )
فعله وحكمه تعالى نفس الحق لا مطابق للحق موافق له ، بيان ذلك أن الشيء إنما يكون حقا إذا كان ثابتا في الخارج واقعا في الأعيان من غير أن يختلقه وهم أو يصنعه ذهن كالإنسان الذي هو أحد الموجودات الخارجية والأرض التي يعيش عليها والنبات والحيوانات التي يغتذي بها ، والخبر إنما يكون حقا إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلا عن إدراكنا والحكم والقضاء إنما يكون حقا إذا وافق السنة الجارية في الكون فإذا أمر الآمر بشيء أو قضى القاضي بشيء فإنما يكون حكم هذا وقضاء ذاك حقا مطلقا إذا وافق المصلحة المطلقة المأخوذة من السنة الجارية في الكون ، ويكون حقا نسبيا إذا وافق المصلحة النسبية المأخوذة من سنة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى النظام العام العالمي.
فإذا أمرنا آمر بالتزام العدل أو اجتناب الظلم فإنما يعد ذلك حقا لأن نظام الكون يهدي الأشياء إلى سعادتها وخيرها ، وقد قضى على الإنسان أن يعيش اجتماعيا ، وقضى على كل مجتمع مركب من أجزاء أن يتلاءم أجزاؤه ولا يزاحم بعضها بعضا ، ولا يفسد طرف منه طرفا ، حتى ينال ما قسم له من سعادة الوجود ، ويتوزع ذلك بين أجزائه المجتمعين ، فمصلحة هذا النوع المطلقة هي سعادته في الحياة ، ويطابقها الأمر بالعدل والنهي عن الظلم فكل منهما حكم حق ، ولا يطابقها الأمر بالظلم والنهي عن العدل فهما من الباطل ، والتوحيد حق لأنه يهدي إلى سعادة الإنسان في حياته الحقيقية ، والشرك باطل لأنه يجر الإنسان إلى شقاء مهلك وعذاب خالد.
وكذلك القضاء بين متخاصمين إنما يكون حقا إذا وافق الحكم المشروع المراعى