فالذي في داخل حدودها وأقدارها يرجع بالحقيقة إلى ما في خزائن الغيب ويرجع إلى الغيب المطلق ، وأما هي مع ما لها من الحد والقدر فهي التي من شأنها أن يقع عليها شهودنا ويتعلق بها علمنا فعند ما نعلم بها تصير من الشهادة وعند ما نجهل بها تصير غيبا ، ومن الحري أن نسميها عند ما تصير مجهولة لنا غيبا نسبيا لأن هذا الوصف الذي يطرؤها عندئذ وصف نسبي يختلف بالنسب والإضافات كما أن ما في الدار مثلا من الشهادة بالنسبة إلى من فيها ، ومن قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها ، وكذا الأضواء والألوان المحسوسة بحاسة البصر من الشهادة بالنسبة إلى البصر ، ومن الغيب بالنسبة إلى حاسة السمع ، والمسموعات التي ينالها السمع شهادة بالنسبة إليه وغيب بالنسبة إلى البصر ، ومحسوساتهما جميعا من الشهادة بالنسبة إلى الإنسان الذي يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الأناسي.
والتي عدها تعالى في الآية بقوله : « وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ » من هذا الغيب النسبي فإنها جميعا أمور محدودة مقدرة لا تأبى بحسب طبعها أن يتعلق بها علمنا ولا أن يكون مشهودة لنا فهي من الغيب النسبي.
وقد دلت الآية على أن هذه الأمور في كتاب مبين فما هو الذي منها في كتاب مبين؟ أهو هذه الأشياء من جهة شهادتها وغيبها جميعا أم هي من جهة غيبها فقط؟ وبعبارة أخرى : الكتاب المبين أهو هذا الكون المشتمل على أعيان هذه الأشياء لا يغيب عنه شيء منها وإن غاب بعضها عن بعض أم هو أمر وراء هذا الكون مكتوبة فيه هذه الأشياء نوعا من الكتابة مخزونة فيه نوعا من الخزن غائبة من شهادة الشهداء من أهل العالم فيكون ما في الكتاب من الغيب المطلق.
وبلفظ آخر الأشياء الواقعة في الكون المعدودة بنحو العموم في الآية أهي واقعة بنفسها في الكتاب المبين كما تقع الخطوط بأنفسها في الكتب التي عندنا أم هي واقعة بمعانيها فيه كما تقع المطالب الخارجية بمعانيها بنوع من الوقوع في ما نكتبه من الصحائف والرسائل ثم تطابق الخارج مطابقة العلم العين.؟
لكن قوله تعالى : « ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها » : ( الحديد : ٢٢ ) يدل على أن نسبة هذا الكتاب إلى الحوادث الخارجية نسبة الكتاب الذي يكتب فيه برنامج العمل إلى العمل الخارجي ، ويقرب منه قوله تعالى :