مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به.
ومحصله أن الدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه مسلك الاختيار ، واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره ، وسلوك أي الطريقين رضي لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك.
قال تعالى : « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » : ( الدهر : ٣ ) فإنما هي هداية وإراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرق والتمرد من غير أن يضطر إلى شيء من الطريقين ويلجأ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث ، قال تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى » : ( النجم : ٤١ ) فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه فإن كان خيرا أراه الله ذلك وإن كان شرا أمضاه له ، قال تعالى : « مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » : ( الشورى : ٢٠ ).
وبالجملة هذه الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار وإلجاء ، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة أو الشقاء بالمخالفة والمعصية من غير أن يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال : « لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ » ( الشعراء : ٤ ).
فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشري فيمضي الله ذلك ويلبس عليهم كما لبسوا ، قال تعالى : « فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ » : ( الصف : ٥ ).
فإنزال الملك رسولا لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشري ، ويكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا : ( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ليس إلا سؤالا لأمر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا ، فهذا معنى قوله :