الآيتين ، السابقتين والتمهيد لبيان علمه بسر الإنسان وجهره وما تكسبه نفسه.
فقوله : « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ » إشارة إلى نظام الكون العام الذي عليه تدبر الأشياء على كثرتها وتفرقها في عالمنا في نظامه الجاري المحكم إلا عالم الأرض الذي يحيط به عالم السماوات على سعتها ثم يتصرف بها بالنور والظلمات اللذين عليهما يدور رحى العالم المشهود في تحوله وتكامله فلا يزال يتولد شيء من شيء ، ويتقلب شيء إلى شيء ، ويظهر واحد ويخفى آخر ، ويتكون جديد ويفسد قديم ، وينتظم من تلاقي هذه الحركات المتنوعة على شتاتها الحركة العالمية الكبرى التي تحمل أثقال الأشياء ، وتسير بها إلى مستقرها.
والجعل في قوله : « وَجَعَلَ الظُّلُماتِ » إلخ بمعنى الخلق غير أن الخلق لما كان مأخوذا في الأصل من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتى مأخوذا في معناه بخلاف الجعل ، ولعل هذا هو السبب في تخصيص الخلق بالسماوات والأرض لما فيها من التركيب بخلاف الظلمة والنور ، ولذا خصا باستعمال الجعل. والله أعلم.
وقد أتى بالظلمات بصيغة الجمع دون النور ، ولعله لكون الظلمة متحققة بالقياس إلى النور فإنها عدم النور فيما من شأنه أن يتنور فتتكثر بحسب مراتب قربه من النور وبعده بخلاف النور فإنه أمر وجودي لا يتحقق بمقايسته إلى الظلمة التي هي عدمية ، وتكثيره تصورا بحسب قياسه التصوري إلى الظلمة لا يوجب تعدده وتكثره حقيقة.
قوله تعالى : « ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ » مسوق للتعجب المشوب بلوم أي إن الله سبحانه بخلقه السماوات والأرض وجعله الظلمات والنور متوحد بالألوهية متفرد بالربوبية لا يماثله شيء ولا يشاركه ، ومن العجب أن الذين كفروا مع اعترافهم بأن الخلق والتدبير لله بحقيقة معنى الملك دون الأصنام التي اتخذوها آلهة يعدلون بالله غيره من أصنامهم ويسوون به أوثانهم فيجعلون له أندادا تعادله بزعمهم فهم ملومون على ذلك.
وبذلك يظهر وجه الإتيان بثم الدال على التأخير والتراخي فكأن المتكلم لما وصف تفرده بالصنع والإيجاد وتوحده بالألوهية والربوبية ذكر مزعمة المشركين وأصحاب الأوثان أن هذه الحجارة والأخشاب المعمولة أصناما يعدلون بها رب العالمين فشغله التعجب