على العرش فالعرش مقام العلم كما أنه مقام التدبير العام الذي يسع كل شيء ، وكل شيء في جوفه.
ولذلك هو محفوظ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء كما في قوله : « وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ » وموجود مع هذا العالم المشهود كما يدل عليه آيات خلق السماوات والأرض ، وموجود قبل هذه الخلقة كما يدل عليه قوله : « وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ » : هود : ٧.
قوله تعالى : « ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً » إلى آخر الآيتين. التضرع هو التذلل من الضراعة وهي الضعف والذلة. والخفية هي الاستتار وليس من البعيد أن يكون كناية عن التذلل جيء به لتأكيد التضرع فإن المتذلل يكاد يختفي من الصغار والهوان.
الآية السابقة : « إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ » الآية تذكر بربوبيته وحده لا شريك له من جهة أنه هو الخالق وحده ، وإليه تدبير خلقه وحده ، فتعقيبها بهاتين الآيتين بمنزلة أخذ النتيجة من البيان ، وهي الدعوة إلى دعائه وعبوديته ، والحكم بأخذ دين يوافق ربوبيته تعالى وهي الربوبية من غير شريك في الخلق ولا في التدبير.
ولذلك دعا أولا إلى دين العبودية فقال : « ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها » فأمر أن يدعوه بالتضرع والتذلل وأن يكون ذلك خفته من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبودية الخارجة عن زيها ـ بناء على أن تكون الواو في « تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً » للجمع ـ أو أن يدعوه بالتضرع والابتهال الملازم عادة للجهر بوجه أو بالخفية إخفاتا فإن ذلك هو لازم العبودية ومن عدا ذلك فقد اعتدى عن طور العبودية وإن الله لا يحب المعتدين.
ومن الممكن أن يكون المراد بالتضرع والخفية : الجهر والسر وإنما وضع التضرع موضع الجهر لكون الجهر في الدعاء منافيا لأدب العبودية إلا أن يصاحب التضرع.
هذا فيما بينهم وبين الله ، وأما فيما بينهم وبين الناس فأن لا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها فليس حقيقة الدين فيما يرجع إلى حقوق الناس إلا أن يصلح شأنهم بارتفاع المظالم من بينهم ومعاملتهم بما يعينهم على التقوى ، ويقربهم من سعادة الحياة في الدنيا والآخرة.
ثم كرر الدعوة إليه وأعاد البعث إلى دعائه بالجمع بين الطريقين الذين لم يزل البشر