أحسن أفراد الغلمان والجواري فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه ولا ليتولهوا كل من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه ورجاء الانتفاع به أو اتخاذه ولدا معنى عميق وعلى الأخص من جهة أنه أمر بذلك امرأته وسيدة بيته وليس من المعهود أن تباشر الملكات والعزيزات جزئيات الأمور وسفاسفها ولا أن تتصدى السيدات المنيعة مكانا ، أمور العبيد والغلمان.
نعم : إن يوسف عليهالسلام كان ذا جمال بديع يبهر العقول ويوله الألباب ، وكان قد أوتي مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل ، وهذه صفات لا تنمو في الإنسان إلا وأعراقها ناجمة فيه أيام صباوته وآثارها لائحة من سيماه من بادئ أمره.
فهذه هي التي جذبت نفس العزيز إلى يوسف ـ وهو طفل صغير ـ حتى تمنى أن ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من أخص الناس به ينتفع به في أموره الهامة ومقاصده العالية أو يدخل في أرومته ويكون ولدا له ولامرأته بالتبني فيعود وارثا لبيته.
ومن هنا يمكن أن يستظهر أن العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته ولذلك ترجى أن يتبنى هو وزوجته يوسف.
فقوله : « وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ » أي العزيز « لِامْرَأَتِهِ » وهي العزيزة « أَكْرِمِي مَثْواهُ » أي تصدي بنفسك أمره واجعلي له مقاما كريما عندك « عَسى أَنْ يَنْفَعَنا » في مقاصدنا العالية وأمورنا الهامة « أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً » بالتبني.
قوله تعالى : « وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » قال في المفردات ، المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء قال ويقال : مكنته ومكنت له فتمكن ، قال تعالى : « وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ » « وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ » « أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ » « وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ » قال : قال الخليل : المكان مفعل من الكون ، ولكثرته في الكلام أجرى مجرى فعال فقيل : تمكن وتمسكن مثل تمنزل. انتهى. فالمكان هو مقر الشيء من الأرض ، والإمكان والتمكين الإقرار والتقرير في المحل ، وربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشيء من الأمور المعنوية كالمكانة في العلم وعند الناس ويقال : أمكنته من الشيء فتمكن منه أي أقدرته فقدر عليه وهو من قبيل الكناية.