فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصة خروجه من الجب ودخوله مصر واستقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإن إخوته حسدوه وحرموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجب وسلبوه نعمة التمتع في وطنه في البادية وباعوه من السيارة ليغربوه من أهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببا يتوسل به إلى التمكن والاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثم تعلقت به امرأة العزيز وراودته هي ونسوة مصر ليوردنه في الصبوة والفحشاء فصرف الله عنه كيدهن وجعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه وصدقه في إيمانه ثم بدا لهم أن يجعلوه في السجن ويسلبوا عنه حرية معاشرة الناس والمخالطة لهم فتسبب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع.
وبالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى : « كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ » : المؤمن ٧٤ وقوله : « كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ » : الرعد : ١٧ أي إن إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى ، وضربه الأمثال أبدا على هذا النحو من المثل المضروب وهو أنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.
وقوله : « وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » بيان لغاية التمكين المذكور واللام للغاية ، وهو معطوف على مقدر والتقدير : مكنا له في الأرض لنفعل به كذا وكذا ولنعلمه من تأويل الأحاديث وإنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات أخر لا يسعها مقام التخاطب ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » : الأنعام : ٧٥ ونظائره.
وقوله : « وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » الظاهر أن المراد بالأمر الشأن وهو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى : « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » : يونس : ٣ ، وإنما أضيف إليه تعالى لأنه مالك كل أمر كما قال تعالى : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » : الأعراف : ٥٤.
والمعنى أن كل شأن من شئون الصنع والإيجاد من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء ، ينقاد له فيما أراد ، ليس له أن يستكبر أو