فلما طلع يوسف عليهن ووقعت عليه أعينهن طارت عقولهن وطاحت أحلامهن ولم يدرين دون أن قطعن أيديهن مكان الفاكهة التي فيها لما دخل عليهن من البهت والذهول ، وهذه خاصة الوله والفزع فإن نفس الإنسان إذا انجذبت إلى شيء مما تفرط في حبه أو تخافه وتهوله اضطربت وبهتت ففاجأها الموت أو سلبت الشعور اللازم في تدبير القوى والأعضاء وتنظيم الأمر ، فربما أقدم مسرعا إلى الخطر الذي أدهشه لقاؤه وربما نسي الفرار فبقي كالجماد الذي لا حراك به ، وربما يفعل غير ما هو قاصده وفاعله اختباطا ، ونظائرها في جانب الحب كثيرة وحكايات المغرمين والمتولهين من العشاق مشهورة.
وكان هذا هو الفرق بين العزيزة وبينهن فإن استغراقها في حب يوسف إنما حصل لها تدريجا ، وأما نساء المدينة فإنهن فوجئن به دفعة فغشيت قلوبهن غاشية الجمال ، وغادرهن الحب ففضحهن وأطار عقلهن وأضل رأيهن فنسين الفاكهة وقطعن أيديهن وتركن كل تجلد واصطبار ، وأبدين ما في أنفسهن من وله الحب ، وقلن : « حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ».
هذا وهن في بيت العزيز وهو بيت يجب فيه التحفظ على كل أدب ووقار ، وكان يجب أن يتقينها ويحتشمن موقعها وهن شريفات ذوات جمال وذوات بعولة وذوات خدر وستر وهذه كلها جهات مانعة عن الخلاعة والتهتك ، وهن لم ينسين ما كن بالأمس يتحدثن به ويلمن ويذممن امرأة العزيز في حبها ليوسف وهما في بيت واحد منذ سنين.
فكان من الواجب على كل منهن أن تتقي صواحبها فلا تتهتك وهن يعلمن ما انجر إليه أمر امرأة العزيز من سوء الذكر وفضاحة الشهرة هذا كله ويوسف واقف أمامهن يسمع قولهن ويشاهد صنعهن.
لكن الذي شاهدنه على المفاجأة من حسن يوسف نسخ ما قدرنه من قبل في أنفسهن وبدل مجلس الأدب والاحتشام حفلة عيش لا يكتم محتفلوها من أنفسهم ضميرا ، ولا يبالي حضارها ما قيل أو يقال فيهم ولم يلبثن دون أن قلن « حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ » وقد قلن غير بعيد : « امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ».
وكلامهن هذا بعد قولهن ذاك إعذار منهن فمفاده أن الذي كنا نقوله قبل إنما هو