ثم احتج عليه ثانيا من طريق انحصار الملك الحقيقي فيه تعالى لكونه غنيا محمودا مطلقا وتقريره أنه تعالى مبدئ كل خلق ومعطي كل كمال فهو واجد لكل ما يحتاج إليه الأشياء فهو غني على الإطلاق إذ لو لم يكن غنيا من جهة من الجهات لم يكن مبدئا له معطيا لكماله هذا خلف ، وإذا كان غنيا على الإطلاق كان له ما في السماوات والأرض فهو المالك لكل شيء على الإطلاق فله أن يتصرف فيها كيف شاء فكل تدبير وتصرف يقع في العالم فهو له إذ لو كان شيء من التدبير لغيره لا له كان مالكه ذلك الغير دونه وإذا كان التدبير والتصرف له تعالى فهو رب العالمين والإله الذي يعبد ويشكر إنعامه وإحسانه.
وهذا هو الذي يشير إليه قوله : « لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ » فقوله : « لِلَّهِ ما فِي » إلخ ، حجة على وحدانيته وقوله : « إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ » تعليل للملك.
وأما قوله : « الْحَمِيدُ » أي المحمود في أفعاله فهو مبدأ آخر للحجة وذلك أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري وكل جميل في العالم فهو له سبحانه فإليه يعود الثناء فيه فهو حميد على الإطلاق ولو كان شيء من هذا التدبير المتقن الجميل من غيره تعالى من غير انتساب إليه لكان الحمد والثناء لغيره تعالى لا له فلا يكون حميدا على الإطلاق وبالنسبة إلى كل شيء وقد فرض أنه حميد على الإطلاق هذا خلف.
قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ » إلخ ، « مِنْ شَجَرَةٍ » بيان للموصول والشجرة واحد الشجر وتفيد في المقام ـ وهي في سياق « لَوْ » الاستغراق أي كل شجرة في الأرض ، والمراد بالبحر مطلق البحر ، وقوله : « يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ » أي يعينه بالانضياف إليه سبعة أمثاله والظاهر أن المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد والكلمة هي اللفظ الدال على معنى ، وقد أطلق في كلامه تعالى على الوجود المفاض بأمره تعالى ، وقد قال : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » يس : ٨٢ وقد أطلق على المسيح عليهالسلام الكلمة في قوله : « وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ » النساء : ١٧١.
فالمعنى : ولو جعل أشجار الأرض أقلاما وأخذ البحر وأضيف إليه سبعة أمثاله وجعل المجموع مدادا فكتب كلمات الله ـ بتبديلها ألفاظا دالة عليها ـ بتلك