قوله تعالى : « وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ » إلخ ، قد تقدم البحث عن معنى كلامه تعالى في الجزء الثاني من الكتاب ، وإطلاق الكلام على كلامه تعالى والتكليم على فعله الخاص سواء كان إطلاقا حقيقيا أو مجازيا واقع في كلامه تعالى قال : « يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي » الأعراف : ١٤٤ وقال : « وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً » النساء : ١٦٤ ، ومن مصاديق كلامه ما يتلقاه الأنبياء عليهمالسلام منه تعالى بالوحي.
وعلى هذا لا موجب لعد الاستثناء في قوله : « إِلَّا وَحْياً » منقطعا بل الوحي والقسمان المذكوران بعده من تكليمه تعالى للبشر سواء كان إطلاق التكليم عليها إطلاقا حقيقيا أو مجازيا فكل واحد من الوحي وما كان من وراء حجاب وما كان بإرسال رسول نوع من تكليمه للبشر.
فقوله : « وَحْياً » ـ والوحي الإشارة السريعة على ما ذكره الراغب ـ مفعول مطلق نوعي وكذا المعطوفان عليه في معنى المصدر النوعي ، والمعنى : ما كان لبشر أن يكلمه الله نوعا من أنواع التكليم إلا هذه الأنواع الثلاثة أن يوحي وحيا أو يكون من وراء حجاب أو أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء.
ثم إن ظاهر الترديد في الآية بأو هو التقسيم على مغايرة بين الأقسام وقد قيد القسمان الأخيران بقيد كالحجاب ، والرسول الذي يوحي إلى النبي ولم يقيد القسم الأول بشيء فظاهر المقابلة يفيد أن المراد به التكليم الخفي من دون أن يتوسط واسطة بينة تعالى وبين النبي أصلا ، وأما القسمان الآخران ففيهما قيد زائد وهو الحجاب أو الرسول الموحي وكل منهما واسطة غير أن الفارق أن الواسطة الذي هو الرسول يوحي إلى النبي بنفسه والحجاب واسطة ليس بموح وإنما الوحي من ورائه.
فتحصل أن القسم الثالث « أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ » وحي بتوسط الرسول الذي هو ملك الوحي فيوحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله سبحانه قال تعالى : « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » الشعراء : ١٩٤ ، وقال : « قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ » البقرة : ٩٧ ، والموحي مع ذلك هو الله سبحانه كما قال : « بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ » يوسف : ٣.