مقدمة الزبيدي
وهي مشتملة على عشرة مقاصد :
المقصد الأَول
في بيان أَن اللغة هل هي
توقيفية أَو اصطلاحية
نقل السيوطي في المزهر عن أَبي الفتح بن بُرهان في كتاب الوصول إِلى الأُصول : اختلف العلماءُ في اللغة هل تثبت توقيفاً أَو اصطلاحاً ، فذهبت المعتزِلة إِلى أَن اللغات بأَسرها تثبت اصطلاحاً ، وذهبت طائفة إِلى أَنها تثبت توقيفاً ، وزعم الأُستاذ أَبو إِسحاق الإِسفرايني أَن القَدْر الذي يدعو به الإِنسانُ غيرَه إِلى التواضع يثبت توقيفاً ، وما عدا ذلك يجوز أَن يثبت بكل واحد من الطريقين ، وقال القاضي أَبو بكر : لا يجوز أَن يثبت توقيفاً ، ويجوز أَن يثبت اصطلاحاً ويجوز أَن يثبت بعضه توقيفاً وبعضه اصطلاحاً ، والكلّ ممكِنٌ.
ونقل أَيضاً عن إِمام الحرمين أَبي المعالي في البرهان : اختلف أَربابُ الأُصول في مأْخذِ اللغات ، فذهب ذاهبون إِلى أَنها توقيفٌ من الله تعالى ، وصار صائرون إِلى أَنها تثبت اصطلاحاً وتواطؤاً.
ونقل عن الزَّركشي في البحر المحيط : حكى الأُستاذ أَبو منصور قولاً أَن التوقيف وقع في الابتداء على لغة واحدة ، وما سِواها من اللغات وقع عليها التوقيف بعد الطُّوفان ، من الله تعالى ، في أَولاد نوح ، حين تفرَّقوا في الأَقطار. قال :
وقد رُوِي عن ابن عباسٍ رضياللهعنهما أَن أَوّل من تكلم بالعربية المحضة إِسماعيل ، وأَراد به عربيَّة قُريش التي نزل بها القرآن ، وأَما عربيّة قحطانَ وحِمير فكانت قبل إسماعيل عليهالسلام. وقال في شرح الأَسماء : قال الجمهور الأَعظم من الصحابة والتابعين من المفسِّرين إِنها كلَّها توقيف من الله تعالى.
وقال أَهلُ التحقيق من أَصحابنا : لابد من التوقيف في أَصل اللغة الواحدة ، لاستحالة وقوع الاصطلاح على أَوّل اللغات ، من غير معرفةٍ من المصطلحين بِعَيْن ما اصطلحوا عليه ، وإِذا حصل التوقيف على لغةٍ واحدة ، جاز أَن يكون ما بعدها من اللغات اصطلاحاً ، وأَن يكون توقيفاً ، ولا يُقْطَع بأَحدهما إِلا بدلالة.
ثم قال : واختلفوا في لغة العرب ، فمن زعم أَن اللغاتِ كلَّها اصطلاحٌ فكذا قولُه في لغةِ العرب ، ومن قال بالتوقيف على اللغةِ الأُخرى (١) وأَجاز الاصطلاح فيما سواها من اللغاتِ ، إختلفوا في لغة العرب ، فمنهم من قال : هي أَول اللغات ، وكلُّ لغة سواها حَدثَتْ فيما بعد إِما توقيفاً أَو اصطلاحاً ، واستدلوا بِأَن القرآن كلام الله تعالى ، وهو عربيٌّ ، وهو دليل على أَن لغة العرب أَسبق اللغاتِ وجوداً ، ومنهم من قال : لغةُ العرب نوعان : أَحدهما عَربيَّة حِمْير ، وهي التي تكلّموا بها من عهد هُود وَمَن قَبلَه ، وبقي بعضُها إِلى وقتنا ، والثانية العربية المحضة ، التي بها نزل القرآن ، وأَوّل من أَطلقَ لِسانَه بها إِسماعيلُ ، فعلى هذا القولِ يكون توقيف إِسماعيل على العربية المحضة يحتمل أَمرين : إِما أَن يكون اصطلاحاً بينه وبين جُرْهُمٍ النازلين عليه بمكَّة ، وإِما أَن يكون توقيفاً من الله تعالى ، وهو الصواب.
قال السيوطي : وأَخرج ابنُ عساكر في التاريخ ، عن ابن عباس ، أَن آدم عليهالسلام كانت لغته في الجنة العربيَّة ،
__________________
(١) بهامش المطبوعة المصرية : «قوله على اللغة الأخرى في بعض نسخ المزهر اللغة الأولى وهي الأحسن.