وفي باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح؟ يقول ابن جني (١) :
هذا موضع محوج إلى فضل تأمل ، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف. إلّا أن أبا علي رحمهالله ، قال لي يوما : هي من عند الله ، واحتج بقوله سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) وهذا لا يتناول موضع الخلاف ... على أنه قد فسّر هذا بأن قيل : إن الله سبحانه علم آدم أسماء جميع المخلوقات ، بجميع اللغات العربية ، والفارسية ، والسريانية والعبرانية والرومية ، وغير ذلك من سائر اللغات ، فكان آدم وولده يتكلمون بها ، ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا ، وعلق كل منهم بلغة من تلك اللغات فغلبت عليه ، واضمحل عنه ما سواها ، لبعد عهدهم بها.
وإذا كان الخبر الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده ، والانطواء على القول به.
وفي موضع آخر يقول (٢) : وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات ، كدويّ الريح ، وحنين الرعد ، وخرير الماء ، وشحيج الحمار ، ونعيق الغراب ، وصهيل الفرس ، ونزيب الظبي ونحو ذلك ، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد.
وهذا عندي وجه صالح ، ومذهب متقبل.
واسترسل السيوطي في ذكر احتجاج كل من القائلين بالتوقيف ، واحتجاج القائلين بالاصطلاح (٣).
وانتهى ابن جني إلى القول : الصواب سواء قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد ، بل وقعت متلاحقة متتابعة (٤).
قال ابن فارس في فقه اللغة : باب القول في مأخذ اللغة : تؤخذ اللغة اعتيادا كالصبي العربي يسمع أبويه أو غيرهما فهو يأخذ اللغة عنهم على ممر الأوقات ، وتؤخذ تلقّنا من ملقّن ، وتؤخذ سماعا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ، ويتّقى المظنون (٥).
ونقل السيوطي (٦) عن الزركشي أن اللغة لا تلزم إلا بخمس شرائط :
أحدها : ثبوت ذلك عن العرب بسند صحيح يوجب العمل.
__________________
(١) الخصائص ١ / ٤٠ وما بعدها. وسيرد بحث في ذلك في مقدمة الزبيدي.
(٢) الخصائص ١ / ٤٦ ـ ٤٧.
(٣) المزهر ١ / ١٧ ـ ١٨.
(٤) المزهر ١ / ٥٥ نقلا عن ابن جني.
(٥) المزهر ١ / ٥٨ نقلا عن ابن فارس.
(٦) المزهر ١ / ٥٨.