فيقول الأول لأصحابه : كيف رأيتم سخريتي بهؤلاء ، وكفي عاديتهم عني وعنكم؟
فيقولون له : لا نزال بخير ما عشت لنا.
فيقول لهم : فهكذا فلتكن معاملتكم لهم ، إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم مثل هذه ، فإن اللبيب العاقل من تجرع على الغصة (٩) حتى ينال الفرصة.
ثم يعودون إلى أخدانهم المنافقين المتمردين المشاركين لهم في تكذيب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما أداه إليهم عن الله عز وجل من ذكر وتفضيل أمير المؤمنين عليهالسلام ونصبه إماما على كافة المكلفين (قالُوا ـ لهم ـ إِنَّا مَعَكُمْ) فيما واطأتكم عليه أنفسكم ، من دفع علي عن هذا الأمر ، إن كانت لمحمد كائنة ، فلا يغرنكم ولا يهولنكم ما تسمعونه مني من تقريظهم (١٠) ، وتروني أجترئ عليهم من مداراتهم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بهم.
فقال الله عز وجل : يا محمد (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يجازيهم جزاء استهزائهم في الدنيا والآخرة (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يمهلهم فيتأنى بهم برفقه ، ويدعوهم إلى التوبة ، ويعدهم إذا تابوا المغفرة وهم (يَعْمَهُونَ) لا يرعوون (١١) عن قبيح ، ولا يتركون أذى لمحمد وعلي (صلوات الله عليهما) يمكنهم إيصاله إليهما إلا بلغوه.
قال العالم عليهالسلام : فأما استهزاء الله تعالى بهم في الدنيا فهو أنه ـ مع إجرائه إياهم على ظاهر أحكام المسلمين ، لإظهارهم ما يظهرونه من السمع والطاعة ، والموافقة ـ يأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتعريض لهم حتى لا يخفي على المخلصين من المراد بذلك التعريض ، ويأمر بلعنهم.
وأما استهزاؤه بهم في الآخرة فهو أن الله عز وجل إذا أقرهم في دار اللعنة والهوان وعذبهم بتلك الألوان العجيبة من العذاب ، وأقر هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم صفي الملك الديان أطلعهم على هؤلاء المستهزئين الذين كانوا يستهزءون بهم في الدنيا ، حتى يروا ما هم فيه من عجائب اللعائن وبدائع النقمات ، فتكون لذتهم وسرورهم بشماتتهم بهم ، كما لذتهم وسرورهم بنعيمهم في جنات ربهم.
فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين والمنافقين بأسمائهم وصفاتهم ، وهم على أصناف : منهم من هو بين أنياب أفاعيها تمضغه وتفترسه ، ومنهم من هو تحت سياط زبانيتها (١٢) وأعمدتها ومرزباتها (١٣) ، تقع من أيديها عليه ما يشدد في عذابه ، ويعظم حزنه ونكاله ، ومنهم من هو في بحار حميمها يغرق ، ويسحب فيها ، ومنهم من هو في غسلينها (١٤) وغساقها (١٥) ، تزجره فيها زبانيتها. ومنهم من هو في سائر أصناف عذابها.
__________________
(٩) الغصّة : الشّجا في الحلق. «مجمع البحرين ـ غصص ـ ٤ : ١٧٦».
(١٠) التقريظ : مدح الإنسان وهو حيّ ، بباطل أو حقّ. «الصحاح ـ قرظ ـ ٣ : ١١٧٧».
(١١) ارعوى عنه : كفّ وارتدع. «المعجم الوسيط ـ رعا ـ ١ : ٣٥٥».
(١٢) الزبانية عند العرب : الشرط ، وسمّي بذلك بعض الملائكة لدفعهم أهل النّار إليها. «الصحاح ـ زبن ـ ٥ : ٢١٣٠».
(١٣) المرزبات : جمع مرزبة : وهي عصيّة من حديد ، وهي أيضا المطرقة الكبيرة التي تكون للحدّاد. «لسان العرب ـ رزب ـ ١ : ٤١٦ و ٤١٧».
(١٤) الغسلين : غسالة أجواف أهل النّار ، وكلّ جرح ودبر. «مجمع البحرين ـ غسل ـ ٥ : ٤٣٤».