القيامة في عرصاتها بحيث تقصر (١) كل من تضمنته تلك العرصات أبصارهم مما يشاهدون من درجاتهم ، وإن كل واحد منهم ليحيط بما له من درجاته ، كإحاطته في الدنيا بما يتلقاه بين يديه.
ثم يقال له : وطنت نفسك على احتمال المكاره في موالاة محمد وآله الطيبين ، فقد جعل الله إليك ومكنك من تخليص كل من تحب تخليصه من أهل الشدائد في هذه العرصات ؛ فيمد بصره ، فيحيط بهم ، ثم ينقد (٢) من أحسن إليه أو بره في الدنيا بقول أو فعل أو رد غيبة أو حسن محضر أو إرفاق ، فينقده من بينهم كما ينقد الدرهم الصحيح من المكسور.
ثم يقال له : اجعل هؤلاء في الجنة حيث شئت ؛ فينزلهم جنات ربنا. ثم يقال له : وقد جعلنا لك ، ومكناك من إلقاء من تريد في نار جهنم ؛ فيراهم فيحيط بهم ، وينتقد من بينهم كما ينتقد الدينار من القراضة (٣). ثم يقال له : صيرهم من النيران إلى حيث تشاء (٤) ؛ فيصيرهم حيث يشاء من مضائق النار.
فيقول الله تعالى لبني إسرائيل الموجودين في عصر محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم : فإذا كان أسلافكم إنما دعوا إلى موالاة محمد وآله ، فأنتم الآن لما شاهدتموهم ، فقد وصلتم إلى الغرض والمطلب الأفضل ، إلى موالاة محمد وآله ؛ فتقربوا إلى الله عز وجل بالتقرب إلينا ، ولا تتقربوا من سخطه ، وتتباعدوا من رحمته بالازورار (٥) عنا.
ثم قال الله عز وجل : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ). واذكروا إذ قال أسلافكم : لن نصبر على طعام واحد ، المن والسلوى ، ولا بد لنا من خلطة معه (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ) موسى (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) يريد أتستدعون الأدنى ليكون لكم بدلا من الأفضل؟ ثم قال : (اهْبِطُوا مِصْراً) من الأمصار من هذا التيه (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) في المصر.
قال الله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) الجزية ، أخزوا بها عند ربهم وعند مؤمني عباده (وَالْمَسْكَنَةُ) هي الفقر والذلة (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) احتملوا الغضب واللعنة من الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) قبل أن يضرب عليهم الذلة والمسكنة (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) كانوا يقتلونهم بغير حق ، بلا جرم كان منهم إليهم ، ولا إلى غيرهم.
(ذلِكَ بِما عَصَوْا) ذلك الخذلان الذي استولى عليهم حتى فعلوا الآثام التي من أجلها ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يتجاوزون أمر الله تعالى إلى أمر إبليس.
__________________
= (٨) وطّن نفسه على الشّيء : حملها عليه فتحمّلت وذلّت له. «لسان العرب ـ وطن ـ ١٣ : ٤٥١».
(٩) في «ط» : يقيم.
(١٠) نقد الدراهم : ميّز جيّدها من رديئها. «أساس البلاغة : ٤٦٩».
(١١) القراضة : ما سقط بالقرض. «الصحاح ـ قرض ـ ٣ : ١١٠١».
(١٢) في المصدر : شئت.
(١٣) الازورار عن الشيء : العدول عنه. «الصحاح ـ زور ـ ٢ : ٦٧٣».