١ ـ عجائب خلقة الإنسان من حين تكوّنه إلى حين ولادته :
«نبتدئ يامفضّل! بذكر خلق الإنسان فاعتبر به ، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم ، وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة (١) ، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى ، ولا إستجلاب منفعة ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاؤه حتّى إذا كمل خلقه وإستحكم بدنه ، وقوي أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضياء ، هاج الطلق باُمّه فأزعجه أشدّ إزعاج ، وأعنفه حتّى يولد ، وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم اُمّه إلى ثدييها فانقلب الطعم واللّون إلى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمظ وحرّك شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثديي اُمّه كالإداوتين المعلّقتين (٢) لحاجته إليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، ليّن الأعضاء ، حتّى إذا تحرّك وإحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ، ليمضغ به الطعام فيلين عليه ، ويسهل له إساغته ..
فلا يزال كذلك حتّى يدرك فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبا وشبه النساء ، وإن كانت اُنثى يبقى وجهها نقيّا من الشعر ، لتبقى لها
__________________
(١) المشيمة : غشاء الجنين الذي يخرج معه عند الولادة.
(٢) الإداوة بكسر الهمزة : إناء صغير من جلد يُتّخذ للماء.