المشركين تقصدون إلا وجه الله. فقد علم الله هذا من قلوبكم فأنفقوا عليهم إذا كنتم تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر ، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) أي من مال على الفقراء (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يوفي إليكم ثواب ذلك في الآخرة (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٢٧٢) أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء الذين حبسوا أنفسهم ووقفوها على الجهاد ، لأن الجهاد كان واجبا في ذلك الزمان. نزلت هذه الآية في حق فقراء المهاجرين من قريش ، وكانوا نحو أربعمائة ، وهم أصحاب الصفة. لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة ، وكانوا ملازمين المسجد ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ولا يستطيعون سفرا في الأرض ، ثم عدم الاستطاعة للسير إما لاشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد فذلك يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة ، وإما لخوفهم من الأعداء كما قاله قتادة وابن زيد لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة ، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم فذلك يمنعهم من السفر ، وإما لمرضهم بالجروح كما قاله سعيد بن المسيب ولعجزهم لفقرهم كما قاله ابن عباس وذلك يمنعهم من السفر فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي يظنهم من لم يختبر أمرهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة (تَعْرِفُهُمْ) أيها المخاطب (بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم من الهيبة ووقع في قلوب الخلق وآثار الخشوع في الصلاة فكل من رآهم تواضع لهم.
روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي لا سؤال لهم أصلا فلا يقع منهم إلحاف أي كثرة التلطف وملازمة المسؤول أي إنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق. والمراد بقوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا. عن ابن مسعود رضياللهعنه : إن الله يحب العفيف المتعفف ويبغض الفاحش البذي السآل الملحف الذي إن أعطي كثيرا أفرط في المدح ، وإن أعطي قليلا أفرط في الذم. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) أي من مال (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢٧٣) فيجازيكم على ذلك أحسن جزاء وهذا يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته ما يكفيك بأن يكون علمي شاهدا بكيفية طاعتك وحسن خدمتك فإن هذا أعظم وقعا مما إذا قال له : إن أجرك واصل إليك (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) في الصدقة (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الجنة (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بالدوام (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٤) إذا حزن غيرهم.