مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهرة إلا بنظر دقيق وتأمل أنيق (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي فيتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي طلب الفتنة في الدين ـ وهي الضلال عنه ـ فإنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفا لبعض ، وذلك يفضي إلى الهرج والتقاتل (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي وطلب تأويل المتشابه على ما ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان ، والمنصف يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة :
أحدها : ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذلك هو المحكم حقا.
وثانيها : الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره.
وثالثها : الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فيكون من حقه التوقف فيه ، ويكون ذلك متشابها ، بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر ، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) أي وما يعلم تأويل المتشابه حقيقة إلا الله وحده. ونقل عن ابن عباس رضياللهعنهما أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يمكن لأحد جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعرفه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أي بالكتاب (كُلٌ) أي كل واحد من المحكم والمتشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) والراسخ في العلم : هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية ، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية ، وعرف أنه تعالى لا يتكلم بالباطل والعبث ، فإذا رأى شيئا متشابها ودل الدليل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره ، ثم فوض تعيين ذلك المراد إلى علمه تعالى وقطع بأن ذلك المعنى على أي شيء كان فهو الحق والصواب ، لأنه علم أن ذلك المتشابه لا بدّ وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا) أي وما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائفة ـ وهذا مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر ـ وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية ، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول ويوافق اللغة والإعراب ، ومن تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحرا في علم الأصول وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله تعالى. ولما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي لا تمل قلوبنا عن دينك بعد إذ هديتنا لدينك أو يقال : يا ربنا لا تجعل