قلوبنا مائلة إلى الباطل بعد أن تجعلها مائلة إلى الحق (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب ، ونور الطاعة والعبودية والخدمة في الأعضاء ، وسهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية في الدنيا ، وسهولة سكرات الموت عند الموت ، وسهولة السؤال والظلمة في القبر وغفران السيئات وترجيح الحسنات في القيامة. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨) لكل مطلوب فإن هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إليّ لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك وغاية جودك ورحمتك. وكان صلىاللهعليهوسلم يقول : «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» (١). (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي يا ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك في وقوعه فجازنا فيه أحسن الجزاء (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩) أي الوعد وهذا من بقية كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من ربهم أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية وأنواع الرحمة فكأنهم قالوا : ليس غرضنا من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقرضة وإنما غرضنا الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ونعلم أن وعدك بالجزاء والحساب ، والميزان والصراط والجنة والنار لا يكون خلفا ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ، ومن أعطيته الهداية والرحمة بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أي إن الذين كفروا ككعب بن الأشرف وأصحابه وأبي جهل وأصحابه لن تنفعهم كثرة أموالهم وكثرة أولادهم. (مِنَ اللهِ) أي من عذاب الله أو عند الله (شَيْئاً).
وقيل : إن المراد بهؤلاء وفد نجران. وذلك لأن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه كرز : إني لأعلم أن محمدا رسول الله حقا وهو النبي الذي كنا ننتظره ، ولكنني إن أظهرت إيماني بمحمد أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال الكثير والجاه ، فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عذاب الله في الدنيا والآخرة. نعم إن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ (وَأُولئِكَ) المتصفون بالكفر (هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (١٠) أي حطب النار الذي تسعر به (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي شأن هؤلاء في تكذيب محمد صلىاللهعليهوسلم كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من مكذبي الرسل كقوم هود وقوم صالح (كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهي المعجزات. ومتى كذبوا بها فقد كذبوا بالأنبياء بلا شك (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي عاقبهم الله بتكذيبهم المعجزات الدالة على صدق الرسل. وإنما استعمل الأخذ في العقاب لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأسور المأخوذ لا يقدر على التخلص (وَاللهُ شَدِيدُ) (الْعِقابِ) (١١) وعن سعيد بن جبير وعكرمة
__________________
(١) رواه الترمذي في كتاب القدر ، باب : ٧ ، وابن ماجة في المقدّمة ، باب : فيما أنكرت الجهمية ، وأحمد في (م ٢ / ص ٤).