وضعت» على خطاب الله لها ، أي إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات ، ثم قال تعالى حكاية عن قولها : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) أي وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله. وهذا الكلام يدل على أن حنة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله ، عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه. ويحتمل أن هذه الجملة محض كلامه تعالى. والمعنى ليس الذي طلبته كالأنثى التي ولدتها بل هي خير منه وإن لم تصلح للسدانة فإن فيها مزايا أخر لا توجد في الذكر. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها) أي هذه البنت (مَرْيَمَ) أرادت حنة بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا فإن مريم في لغتهم العابدة في لغة العرب. (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٦) أي وأني ألجئ مريم وذريتها إلى رحمتك وعصمتك ، وألصق نفسها وأولادها بفضلك ورحمتك من الشيطان اللعين (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) بأن اختص الله تعالى مريم بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل أنثى قبلها أو بأن أخذها الله من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة.
روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وقالت : خذوا هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح ، فقال زكريا : أنا أحق بها لأن خالتها عندي. فقالت الأحبار : لا تقل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها ولكنا نقترع عليها ، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين إلى نهر حار في حلب يقال له : قرمق فألقوا فيها أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح ، وعلى كل قلم اسم صاحبه ، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ففي كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريا (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي رباها الله بما يصلحها في جميع أحوالها وغذاها بالسنين والشهور والأيام غذاء حسنا (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي جعله الله مربيا لها وضامنا لمصالحها ، وقائما بتدبير أمورها ولما أخذها بنى لها غرفة في المسجد ، وجعل بابها في وسطه لا يرقى إليه إلا بالسلم ولا يصعد إليها غيره ، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها. (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا) وهو من ذرية سليمان بن داود (الْمِحْرابَ) أي الغرفة (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أي فاكهة الشتاء في الصيف مثل القصب ، وفاكهة الصيف في الشتاء مثل العنب ولم ترضع ثديا قط بل يأتيها رزقها من الجنة. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين لك هذا الرزق الآتي في غير حينه الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة عليك (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أتاني به جبريل من الجنة فتكلمت وهي صغيرة في المهد ، كما تكلم ولدها عيسى عليهالسلام وهو صغير في المهد. (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧) أي بغير تقدير لكثرة الرزق من غير مسألة في حينه وفي غير حينه (هُنالِكَ) أي في ذلك المكان الذي كان قاعدا فيه عند مريم وشاهد تلك الكرامات ، أو في ذلك الوقت الذي رأى