وأخبار الغيوب (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) (٦٣) أي فإن أبوا عن قبول الحق وأعرضوا عما وصفت من أن الله هو الواحد ، وأنه يجب أن يكون عالما قادرا على جميع المقدورات عالما بالنهايات ، محيطا بالمعلومات مع اعترافهم بأن عيسى لم يكن كذلك ومع قولهم : إن اليهود قتلوه فاعلم أن آباءهم وأعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوّض أمرهم إلى الله ، فإن الله عليم بفساد المفسدين ، مطّلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة ، قادر على مجازاتهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران كما قاله ابن عباس : وذلك لأن النبي صلىاللهعليهوسلم لما ذكر على نصارى نجران أنواع الدلائل أولا ، ثم دعاهم إلى المباهلة ثانيا ، فخافوا وقبلوا الصغار بأداء الجزية ، وقد كان صلىاللهعليهوسلم حريصا على إيمانهم فعدل إلى رعاية الإنصاف وترك المجادلة. فكأنه تعالى قال : يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم إنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي يا معشر النصارى (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا البعض لا ميل فيه لأحد على صاحبه.
وقيل : نزلت في حق يهود المدينة. وقيل : نزلت في شأن الفريقين وذلك لما قدم وفد نجران المدينة والتقوا مع اليهود ، واختصموا في دين إبراهيم فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وأنهم على دينه ، وأولى الناس به. وقالت اليهود : بل كان يهوديا ونحن على دينه وأولى الناس به. فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه. بل كان إبراهيم حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام» (١) فقالت اليهود : يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى. وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير. فأنزل الله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي يا معشر اليهود والنصارى : هلموا إلى قصة عادلة مستقيمة بيننا وبينكم لا يختلف فيها الرسل والكتب فإذا آمنا نحن وأنتم بها كنا على السواء والاستقامة ، ثم فسر الكلمة بقوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) أي أن نوحده بالعبادة ونمحضه بها (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) أي ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نعتقده أهلا لأن يعبد (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا يطيع أحد منا أحدا من الرؤساء في معصية الله تعالى وفيما أحدثوا من التحريم والتحليل ، ولا نقول عزير بن الله ولا المسيح بن الله لأنهما بشران مثلنا (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أبوا إلا الإصرار على الشرك (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤) أي فأظهر أنت والمؤمنون بأنكم على هذا الدين وقولوا : اعترفوا بأنا مقرون بالتوحيد والعبادة لله تعالى دونكم فقد لزمتكم الحجة فوجب
__________________
(١) رواه القرطبي في التفسير (٤ : ١٢٧).