(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وعلى وفق هذه الآية قوله صلىاللهعليهوسلم : «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق» (١) أي لأن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة ، وإنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة. فإذا نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل. وقوله صلىاللهعليهوسلم : «من عرف نفسه عرف ربه» (٢). معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم ، ومن عرف نفسه بالإمكان عرف ربه بالوجوب ، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء. فكان التفكر في الخالق ممكنا من هذا الوجه ، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة فإذا لا تتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول : إنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا في الجهة. ولا شك أن حقيقة المخصوصة مغايرة لهذه السلوب ، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله فلهذا السبب نهى النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن التفكر في الله وأمر بالتفكر في المخلوقات. فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآية بذكره ولم يأمر بالتفكر فيه بل أمر بالتفكر في مخلوقاته.
قال بعض العلماء : «الفكرة تذهب الغفلة وتجلب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع». وعن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تفضلوني على يونس بن متّى فإنه كان يرفع كل يوم مثل عمل أهل الأرض» (٣). أي وذلك لأن عمله هو التفكر في معرفة الله لأنه لا يقدر أحد أن يعمل بجوارحه مثل ما عمل أهل الأرض ، وإنما هو عمل القلب. واعلم أن دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس. ولا شك أن دلائل الآفاق أعظم وأعجب فلو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسرارا عجيبة ، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة الورقة
__________________
المغني عن حمل الأسفار (١ : ٢٩٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٥ : ٢٠٥) ، والقرطبي في التفسير (١٥ : ٢٨٨).
(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١ : ١٦٢) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ : ١١٠) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٥٧٠٦).
(٢) رواه السيوطي في الحاوي للفتاوي (٢ : ٤١٢) ، والعجلوني في كشف الخفاء (٢ : ٣٦٢) ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة (٣٥١).
(٣) رواه القاضي عياض في الشفا (١ : ٢٦٥) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٢ : ١٠٥).