يقبل توبتهم (رَحِيماً) (٦٤) أي يرحم تضرعهم ولا يرد استغفارهم ، والفائدة في العدول في قوله تعالى : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة إجلال شأن رسول الله فإن شأنه أن يستغفر لمن عظم ذنبه وإنهم إذا جاءوه فقد جاءوا من خصه الله تعالى برسالته وأكرمه بوحيه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه وذلك مثل قول الأمير : حكم الأمير بكذا بدل قوله : حكمت بكذا (فَلا وَرَبِّكَ) لا مزيد لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم أو مفيدة لنفي أمر سبق. والتقدير ليس الأمر كما يزعمون من أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك فوربك (لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي حتى يجعلوك حاكما (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي فيما اختلف بينهم من الأمور فتقضي بينهم (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي صدورهم (حَرَجاً) أي ضيقا (مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٦٥) أي وينقادوا لك انقيادا تاما بظواهرهم.
قال عطاء ومجاهد والشعبي : إن هذه الآية في قصة اليهودي والمنافق فهذه الآية متصلة بما قبلها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : نزلت في الزبير ابن العوام وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء فقضى النبيّ صلىاللهعليهوسلم للزبير (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) أي ولو أوجبنا عليهم قتل أنفسهم أو الخروج عن أوطانهم في توبتهم كتوبة بني إسرائيل ما فعلوا أحد الأمرين بطيبة النفس إلّا قليل منهم وهم المخلصون من المؤمنين. والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس لما فعله إلا الأقلون وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم بل اكتفينا منهم في توبتهم بالتسليم لحكمك فليقبلوه بالإخلاص حتى ينالوا خير الدارين.
روي أن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ناظر يهوديا ، فقال اليهودي : إن موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه فقال : يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك.
وروي أن ابن مسعود وعمار بن ياسر فالأمثل ذلك فنزلت هذه الآية وعن عمر بن الخطاب أنه قال : والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يأمرنا بذلك قال صلىاللهعليهوسلم وأشار إلى عبد الله بن رواحة : «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا في أولئك القليل» (١). أخرجه ابن أبي حاتم.(وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي المنافقين (فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي ما يكلفون به (لَكانَ) أي فعلهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) أي لحصل لهم خير الدنيا والآخرة (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٦٦) لهم على الإيمان وسميت أوامر الله مواعظ لاقترانها بالوعد والترغيب (وَإِذاً) لو فعلوا ما أمروا به (لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا) أي
__________________
(١) رواه ابن كثير في التفسير (٢ : ٣٠٩).