الزهري ، وقدامة بن مظعون الجمحي ، ومقداد بن الأسود الكندي ، وطلحة بن عبيد الله التيمي كانوا مع النبي صلىاللهعليهوسلم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة يلقون من المشركين أذى شديدا فيشكون ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويقولون : ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم رسول الله : «كفوا أيديكم عن القتل والضرب فإني لم أومر بقتالهم واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلوات الخمس وزكاة أموالكم» (١). فلما هاجروا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة وأمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم لا شكا في الدين بل نفورا عن الأخطار بالأرواح ، وخوفا من الموت بموجب الجبلة البشرية وذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ) أي فرض (عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أي الجهاد في سبيل الله (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) كطلحة بن عبيد الله التيمي (يَخْشَوْنَ النَّاسَ) أي أهل مكة (كَخَشْيَةِ اللهِ) أي كخوفهم من الله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) أي بل أكثر خوفا لما كان من طبع البشر من الجبن لا للاعتقاد. ثم باتوا وأهل الإيمان يتفاضلون فيه (وَقالُوا) خوفا من الموت لا لكراهتهم أمر الله بالقتال وهذا عطف على جواب «لما» وهو «إذا» فإنها فجائية مكانية (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) في هذا الوقت (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي هلا عافيتنا من بلاء القتال إلى موتنا بآجالنا. وهذا القول استزادة في مدة الكف ويجوز أن يكون هذا مما نطقت به ألسنة حالهم من غير أن يتفوهوا به صريحا (قُلْ) جوابا لهذا السؤال عن حكمة فرض القتال عليهم من غير توبيخ لأنه لا للاعتراض لحكمه تعالى وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي (مَتاعُ الدُّنْيا) أي منفعة الدنيا (قَلِيلٌ) لأنه سريع التقضي وشيك الانصرام وإن أخرتم إلى ذلك لأجل (وَالْآخِرَةُ) أي ثواب الآخرة لا سيما المنوط بالقتال (خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) الكفر والفواحش. لأن نعم الآخرة كثيرة ومؤبدة وصافية عن كدورات القلوب ويقينية بخلاف نعم الدنيا فإنها مشكوكة عاقبتها في اليوم الثاني ومشوبة بالمكاره (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧٧).
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالغيبة. والباقون بالخطاب أي لا تنقصون من أجور أعمالكم قدر خيط في شق النواة. أو المعنى لا ينقصون من ثواب حسناتهم أدنى شيء (أَيْنَما تَكُونُوا) في الحضر أو السفر في البر أو البحر (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) الذي تكرهون القتال لأجله زعما منكم أنه من محاله (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي حصون مرتفعة قوية بالجص (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) أي اليهود والمنافقين (حَسَنَةٌ) أي خصب ورخص السعر وتتابع الأمطار (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ).
قال المفسرون : كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما ظهر عناد اليهود والمنافقين على دعائه إياهم إلى الإيمان أمسك الله عنهم بعض الإمساك ، كما جرت عادته تعالى في جميع الأمم. فعند هذا قالوا : ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا ومزارعنا
__________________
(١) رواه النسائي في كتاب الجهاد باب : وجوب الجهاد.