(فَأَصْبَحَ) أي صار (مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣٠) بقتله دينا ودنيا لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة ، ولأن له عقابا عظيما في الآخرة ، ولما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض فقصدته السباع لتأكله ، فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يوما وقيل : سنة (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) أي يحفر الحفيرة بمنقاره ورجليه بعد قتل صاحبه ، ثم ألقاه فيها وأثار التراب عليه فتعلم قابيل ذلك من الغراب (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) واللام إما متعلقة ببعث حتما والضمير المستكن عائد إلى الله تعالى أو متعلقة بـ «يبحث» أو بـ «بعث» ، والضمير راجع للغراب. و «كيف» حال من ضمير «يوارى» العائد إلى قابيل كالضميرين البارزين وهو معمول ليواري ، وجملته معلقة للرؤية البصرية أو العرفانية المتعدية لمفعول قبل تعديتها بهمزة النقل وبعده لاثنين ، وحينئذ فكيف في محل المفعول الثاني سادة مسده ، والمراد بالسوأة الجسد لقبحه بعد موته. (قالَ) أي قابيل : (يا وَيْلَتى) أي يا هلاكي تعال. وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة ولفظها لفظ النداء كأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره. أي أيها الويل احضر فهذا أوان حضورك (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) أي فأغطي جسد أخي بالتراب أي لما قتل قابيل أخاه تركه بالعراء استخفافا به ، ولما رأى الغراب يدفن غرابا ميتا رق قلبه وقال : إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر أخفاه تحت الأرض أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (٣١) على حمله لهابيل على ظهره سنة لأنه لم يعلم الدفن إلا من الغراب وعلى قتله لأنه لم ينتفع بقتله ولأنه سخط عليه بسببه أبواه وإخوته فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية وعلى استخفافه بهابيل بعد قتله لتركه في العراء. فلما رأى أن الغراب دفن غرابا ميتا ندم على قساوة قلبه وقال : هذا أخي لحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على غراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة. فكان ندمه لهذه الأسباب لا لأجل الخوف من الله تعالى فلا ينفعه ذلك الندم. قيل : لما قتل قابيل هابيل هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها وهو أول من عبد النار.
وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلا. قال : بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي المذكور من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام وهي حصول خسارة الدين والدنيا ، وحصول الندم والحسرة والحزن في القلب. والجار والمجرور متعلق بـ «كتبنا» وهو ابتداء كلام فلا يوقف على اسم الإشارة فالوقف على قوله تعالى : (مِنَ النَّادِمِينَ) تام هذا عند جمهور المفسرين وأصحاب المعاني ويروى عن نافع أنه كان يقف على اسم الإشارة ويجعله من تمام