قال ابن عباس : إن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا ، وشاش بن قيس قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه ، أي نصرفه عن دينه فأتوه صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا أبا القاسم قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك فأتى ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله تعالى : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) بدل اشتمال من المفعول أي واحذرهم فتنتهم أو مضاف إليه لمفعول من أجله أي احذرهم مخافة أن يفتنوك أي يصرفوك عن الحق ويلقوك في الباطل (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي أن يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا وهو أن يسلطك عليهم ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء والسبي فالقوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم وذلك كاف في إهلاكهم (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أهل الكتاب وغيرهم (لَفاسِقُونَ) (٤٩) أي خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).
قرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمي برفع «حكم» على أنه مبتدأ. وقرأ قتادة «أ بحكم» بالباء الجارة بدل الفاء. وقرئ «فحكم» بفتح الفاء والكاف. أي أفيطلبون حاكما كحكام الجاهلية. وهي إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للمداهنة في الأحكام. وإما أهل الجاهلية.
قال مقاتل : كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم فلما بعث وهاجر إلى المدينة تحاكموا إليه ، فقالت بنو قريظة : بنو النضير إخواننا ، أبونا واحد ، وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإن قتلنا واحدا منهم أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من تمر ، وأروش جراحاتنا على النصف من أروش جروحاتهم فاقص بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا أحكم أن دم القرظي كدم النضيري ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة». فغضب بنو النضير وقالوا : لا نرضى بحكمك فإنك عدوّ لنا فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥٠) فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما ولا أحسن منه بيانا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب.
روي أن عبادة بن الصامت جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتبرأ عنده من موالاة اليهود ، فقال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين : لكني لا أتبرأ منهم لأني أخاف الدوائر. فنزلت هذه الآية. وقال السدي لما كانت واقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا إني أخاف أن تدال علينا اليهود.