وقيل : إن الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا الآذان دخلوا على النّبيّ صلىاللهعليهوسلم وقالوا : يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم يسمع بمثله فيما مضى! فإن كنت نبيا فقد خالفت الأنبياء قبلك فمن أين لك صياح كصياح العير؟ فما أقبح هذا الصوت وهذا الأمر فأنزل الله (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٣] الآية. وأنزل : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) الآية وقد دلّت هذه الآية على ثبوت الأذان بنص الكتاب العزيز لا بمنام الصحابة وحده وجملة وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها من الشرط ، والجواب : صلة ثانية للموصول المجرور بمن البيانية وفي الحقيقة إن قوله : (اتَّخَذُوها) معطوف على (أُوتُوا) وإن قوله : (إِذا نادَيْتُمْ) ظرف له كأنه قيل : ومن الذين اتخذوها هزوا ولعبا وقت أذانكم والله أعلم. (ذلِكَ) أي الاستهزاء المذكور (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٥٨) أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن خدمة الخالق المنعم بغاية التعظيم لا تكون مهزوءا بها فإنه أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم ، ولذلك قال بعض الحكماء : أشرف الحركات الصلاة ، وأنفع السكنات الصيام. (قُلْ) بل أشرف الخلق لليهود : (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) أي ما تكرهون من أحوالنا إلا الإيمان بالله (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) أي بالقرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) أي بما أنزل من قبل إنزال القرآن من التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) (٥٩).
وقرأ الجمهور «أن» بفتح الهمزة أي وما تكرهون من أوصافنا إلا إيماننا بما ذكر واعتقادنا بأن أكثركم خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم للكفر بما يصدقه بلا شك. وقرأ نعيم بن ميسرة «إن» بالكسر على الاستئناف (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) أي مما قلتم لمحمد وأصحابه.
روي أنه أتى نفر من اليهود رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسألوه عن دينه فقال صلىاللهعليهوسلم : «نؤمن بالله وما أنزل إلينا ـ إلى قوله ـ ونحن مسلمون» فحين سمعوا منه صلىاللهعليهوسلم ذكر عيسى عليهالسلام قالوا : لا نعلم شرا من دينكم. فنزلت هذه الآية أي هل أخبركم بما هو شر مما تعتقدونه شرا. (مَثُوبَةً) أي عقوبة (عِنْدَ اللهِ) فـ «مثوبة» تمييز لـ «شر» بمعنى عقوبة للتهكم (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) فـ «من» موصولة بدل من «شر» أي من أبعده الله من رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) أي سخط عليهم بانهماكهم بعد سنوح البينات (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) في زمن داود عليهالسلام وهم أصحاب السبت (وَالْخَنازِيرَ) في زمن عيسى عليهالسلام بعد أكلهم من المائدة فكفروا.
وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي من أطاع أحدا في معصية الله كالكهنة وهو معطوف على صلة من كقراءة أبي و «عبدوا الطاغوت» كما أفصح عن ذلك قراءة ابن مسعود «ومن عبدوا الطاغوت» ، وكقراءة الأعمش والنخعي وعبد مبنيا للمفعول. وكذا على قراءة عبد بفتح العين