الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله وقدرته ، وإذا كان الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ كذلك فكيف القول في ملكوت الله تعالى فثبت أن دلالة ملك الله تعالى على سمات عظمته وعزته غير متناهية ، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال فحينئذ لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقب بعض وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية ، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم (فَلَمَّا جَنَ) أي أظلم (عَلَيْهِ اللَّيْلُ) في السرب (رَأى كَوْكَباً) وهي الزهرة وهي في السماء الثالثة (قالَ هذا رَبِّي) مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكوكب (فَلَمَّا أَفَلَ) أي غرب (قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦) أي لا أحب الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال المحتجبين بالأستار (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي مبتدئا في الطلوع إثر غروب الكواكب (قالَ هذا رَبِّي) هذا أكبر من الأول حكاية لقول الخصم الذين يعبدون الكواكب (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إلى حضرة الحق (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٧٧) فإن شيئا مما رأيته لا يليق بالربوبية (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أي مبتدئه في الطلوع (قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) من الأول والثاني (فَلَمَّا أَفَلَتْ) أي هي (قالَ) مخاطبا للكل صادعا بالحق بينهم (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨) بالله من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث.
اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان وهو نمروذ بن كنعان رأى رؤيا كأن كوكبا قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ، وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد في هذه السنة فحبلت أم إبراهيم به وما أظهرت حبلها للناس فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر ، فجاء جبريل عليهالسلام ووضع إصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه ، وكان يتعهده جبريل عليهالسلام فكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها : من ربي؟ فقالت : أنا ، فقال : ومن ربك؟ قالت : أبوك ، فلما أتاه أبوه آزر فقال : يا أبتا من ربي؟ قال : أمك ، قال : فمن رب أمي؟ قال : أنا ، قال : فمن ربك؟ قال : ملك البلد نمروذ ، فعرف إبراهيم جهلهما بربهما فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئا يستدل به على وجود الرب تعالى فرأى النجم الذي هو أضوء النجوم في السماء فقال : هذا ربي إلى آخر القصة. ولما تبرأ إبراهيم من المشركين توجه إلى منشئ هذه المصنوعات فقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي إني وجهت طاعتي وصرفت وجه قلبي للذي أخرج السموات والأرض إلى الوجود (حَنِيفاً) أي مائلا عن كل معبود دون الله تعالى (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩) في شيء من الأفعال والأقوال (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي خاصموه في آلهتهم وخوفوه بها.