قرأ شعبة «لينذر» على الغيبة أي لينذر الكتاب والباقون و «لتنذر» بالخطاب. أي ولتنذر يا أكرم الرسل أهل مكة سميت أم القرى لأنها قبلة أهل الدنيا ولأنها موضع الحج وهي من أصول عبادات أهل الدنيا فيجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأم ، فلما اجتمع أهل الدنيا فيها بسبب الحج فيلزم أن يحصل فيها أنواع التجارات وهي من أصول المعيشة فلهذا السبب سميت مكة أم القرى (وَمَنْ حَوْلَها) أي من أهل جميع بلاد العالم (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالوعد والوعيد والثواب والعقاب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالكتاب (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩٢) فإن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة وتخصيصها بالذكر لأنها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله فلم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة. قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] أي صلاتكم. ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال صلىاللهعليهوسلم : «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» (١) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء فإنهما كانا يدّعيان النبوة والرسالة من عند الله تعالى على سبيل الكذب (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ).
روي أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلما نزل قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] أملاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما بلغ قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هكذا نزلت الآية اكتبها كذلك» (٢) فشك عبد الله وقال : إن كان محمدا صادقا فقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ، ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمر الظهران (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) كما ادعى النضر بن الحرث معارضة القرآن فإنه قال في شأن القرآن : إنه من أساطير الأولين وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله ، وقال : لو نشاء لقلنا مثل هذا.
قال العلماء : وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذبا في ذلك الزمان وبعده لأن خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (٩٣) أي ولو ترى يا أشرف الخلق الظالمين وقت كونهم في شدائد الموت
__________________
(١) رواه أحمد في (م ٦ / ص ٤٢١) ، «بما معناه».
(٢) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٦٢).