لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦) أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لأقعدن لآدم وذريته دينك الموصل إلى الجنة وهو دين الإسلام (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي فأشككهم في صحة البعث والقيامة والحساب وألقي إليهم أن الدنيا قديمة لا تفنى (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي أفترهم عن الحسنات وأقوي دواعيهم في السيئات. ونقل عن شقيق أنه قال : ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع فيقول من قدامي : لا تخف فإن الله غفور رحيم. فأقرأ : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [طه : ٨٢] ، ومن خلفي يخوفني من وقوع أولادي في الفقر. فأقرأ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] ويأتيني بالثناء من قبل يميني. فأقرأ : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ويأتيني بالترغيب في الشهوات من قبل شمالي. فأقرأ : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤]. والحاصل أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب.
ويروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع ، فأوحى الله تعالى إليهم : إنه بقي للإنسان جهتان الفوق والتحت ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع ، غفرت له ذنب سبعين سنة (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧) أي مطيعين. وإنما قال هذا لأنه رأى منهم أن مبدأ الشر متعدد ومبدأ الخير واحد ، وذلك أنه حصل للنفس قوة واحدة تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية وهي العقل ، وتسع عشرة قوة تدعوها إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة ، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة ، واثنان الشهوة والغضب ، وسبعة هي القوى الكامنة وهي : الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة ، والغاذية ، والنامية ، والمولدة. ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة ، فيلزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات البدنية معرضين عن معرفة الحق ومحبته (قالَ اخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة ومن صورة الملائكة (مَذْؤُماً) أي محقورا (مَدْحُوراً) أي مبعدا من كل خير (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي ولد آدم (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ) أي منك ومنهم (أَجْمَعِينَ) (١٨) ففي اللام ومن في قوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ) وجهان فالأظهر أن «اللام» لام التوطئة لقسم محذوف و «من» شرطية في محل رفع مبتدأ و «لأملأنّ» جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة ، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده. والوجه الثاني أن اللام لام الابتداء ومن موصولة وتبعك صلتها وهي في محل رفع مبتدأ و «لأملأن» جواب قسم محذوف وذلك القسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ ، والتقدير للذي تبعك منهم والله لأملأن جهنم منكم والعائد من الجملة القسمية الواقعة خبرا عن المبتدأ متضمن في قوله منكم لأنه لما اجتمع ضمير غيبة وخطاب غلب الخطاب.