السبخة يقل نفعها ومع ذلك أن صاحبها لا يتركها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة فالطلب للنفع العظيم في الدار الآخرة بالمشقة في أداء الطاعات أولى من طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التصريف (نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نكررها (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨) نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) واسم نوح عبد الغفار وهو ابن لمكا بن متوشلخ بن أخنوخ وسمي نوحا إما لدعوته على قومه بالهلاك أو لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان ، أو لأنه مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح ، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فكثر نوحه على نفسه لذلك. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي اعبدوه وحده (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ) أي من مستحق للعبادة (غَيْرُهُ).
قرأ الكسائي بالجر على أنه نعت لـ «إله» باعتبار لفظه. والباقون بالرفع صفة له باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرئ بالنصب على الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥٩) أي إني أعلم أن العذاب ينزل بكم إما في الدنيا أو في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي قال الكبراء الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء : (إِنَّا لَنَراكَ) يا نوح (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦٠) في المسائل الأربع وهي : التكليف ، والتوحيد ، والنبوة ، والمعاد.(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة (وَلكِنِّي رَسُولٌ) إليكم (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦١) (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي).
قرأ أبو عمرو بسكون الباء (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) فتبليغ الرسالة هو أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه والنصيحة هي أن يرغبهم في الطاعات ويحذرهم عن المعاصي بأبلغ الوجوه (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٢) أي إنكم إن عصيتم أمره عاقبكم في الدنيا بالطوفان ، وفي الآخرة بعقاب شديد خارج عما تتصوره عقولهم (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أي استبعدتم وعجبتم من أن جاءكم وحي من مالك أموركم على لسان رجل من جنسكم أي فإنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليهالسلام ويقولون : ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة (لِيُنْذِرَكُمْ) أي لأجل أن يخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي (وَلِتَتَّقُوا) عبادة غير الله (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٦٣) أي ولكي ترحموا فلا تعذبوا وهذا الترتيب في غاية الحسن فإن المقصود من البعثة الإنذار. والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي ، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة (فَكَذَّبُوهُ) أي نوحا في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب تلك المدة المتطاولة (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) من الغرق والعذاب وكان من صحبوه في الفلك أربعين رجلا وأربعين امرأة.
روي أن نوحا عليهالسلام صنع السفينة بنفسه في عامين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها