قال ابن عباس رضياللهعنهما : لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ علي عليه القول فقال العباس : تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا! فقال له علي : ألكم محاسن؟ قال : نعم ، نحن أفضل منكم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ـ أي نخدمها ـ ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ـ أي الأسير ـ فنزلت هذه الآية (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) أي إنما يصح أن يعمر المساجد عمارة يعتد بها (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) لأن المساجد موضع يعبدون الله فيه ، فمن لم يكن مؤمنا بالله لا يبني موضعا يعبد الله فيه (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأن الاشتغال بعبادة الله لا تفيد إلا في القيامة فمن أنكر القيامة لم يعبد ، ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى (وَأَقامَ الصَّلاةَ) فإن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات (وَآتَى الزَّكاةَ) وإنما اعتبر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد ، لأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد بذلك المسجد ، وإذا كان مؤتيا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد بذلك الحضور (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) في باب الدين بأن لا يختار علي رضا الله تعالى رضا غيره (فَعَسى أُولئِكَ) المنعوتون بتلك النعوت الجميلة (أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨) إلى مطالبهم من الجنة وما فيها وعن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «من ألف المسجد ألفه الله تعالى». وعنه صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان»(١) (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله يوم بدر أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله إلخ. ويقوي هذا التأويل قراءة عبد الله بن الزبير سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام.
قال ابن عباس : إن عليا لما أغلظ الكلام على العباس قال العباس : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية (لا يَسْتَوُونَ) أي الفريقان (عِنْدَ اللهِ) في الفضل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٩) لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) أي الذين جمعوا بين هذه الصفات الثلاثة أعلى رتبة وأكثر كرامة عند الله ممن لم يجمع بينها (وَأُولئِكَ) المنعوتون بتلك النعوت الفاضلة (هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠) بسعادة الدنيا والآخرة (يُبَشِّرُهُمْ) أي هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين (رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) أي بمنفعة
__________________
(١) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (٧٢٣٥) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (٥ : ٤٥٦) ، والعجلوني في كشف الخفاء (١ : ٩٣).