كَثْرَتُكُمْ) وهم اثنا عشر ألفا : عشرة من المهاجرين والأنصار الذين فتحوا مكة ، وألفان من الطلقاء وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا ـ وهم أسلموا بعد فتحها في هذه المدة اليسيرة بين هوازن وثقيف ـ وأربعة آلاف ومعهم أمداد سائر العرب. فلما التقوا قال رجل من المسلمين اسمه سلمة بن سلامة الأنصاري : لن تغلب اليوم من قلة أي من أجلها افتخارا بكثرتهم أي نحن كثيرون فلا نغلب ، فأحزنت هذه الكلمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) أي فلم تعطكم تلك الكثرة ما تدفعون به حاجتكم شيئا من الدفع ، أي فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي إنكم لشدة الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لفراركم عن عدوكم (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢٥) أي منهزمين من الله. وقال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام ، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يبق معه صلىاللهعليهوسلم إلا عمه العباس وهو آخذ بلجام بغلته ، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وهو آخذ بركابه ، وهو صلىاللهعليهوسلم يركض بغلته الشهباء نحو الكفار لا يبالي وهو يقول : «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس : «ناد المهاجرين والأنصار». وكان العباس رجلا صيتا ، فجعل ينادي : يا عباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة. فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقا واحدا ، وأخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيده كفا من الحصى فرماهم بها وقال : «شاهت الوجوه» فما زال أمرهم مدبرا وحدهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي رحمته التي يحصل بها سكون وثبات وأمن (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
واعلم أنه لما شق الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج ، وعن الأموال والمساكن على القلوب مشقة عظيمة ذكر الله تعالى ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا وضرب الله تعالى لهذا مثلا وذلك أن عسكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة ، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين ، ثم في حال الانهزام لمّا تضرعوا إلى الله قوّاهم به حتى هزموا عسكر الكفار. وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا ، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا أتاه الدين والدنيا على أحسن الوجوه فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن لأجل مصلحة الدين ، ووعدا لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم على أحسن الوجوه. (وَأَنْزَلَ) من السماء (جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي بأبصارهم. وهم الملائكة عليهم البياض على خيول بلق لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة في قلوبهم وإلقاء الرعب في قلوب المشركين (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر