بالسيف لنطقهم بكلمتي الشهادة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي اشدد على كلا الفريقين بالفعل والقول (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣) هي وهذه الجملة مستأنفة لبيان عاقبة أمرهم (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) بتوافقهم على فتك النّبيّ صلىاللهعليهوسلم وطعنهم على نبوته (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي أظهروا الكفر وجاهروا بالحرب بعد أن أظهروا الإسلام (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا).
روي أن المنافقين هموا بقتله صلىاللهعليهوسلم عند رجوعه من تبوك : وهم خمسة عشر رجلا قد اتفقوا على أن يدفعوه صلىاللهعليهوسلم عن راحلته ليقع في الوادي فيموت ، فأخبره الله بما دبروه ، فلما وصل إلى العقبة التي بين تبوك والمدينة نادى مناديه بأمره : إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره ، واسلكوا يا معشر الجن بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي ، وسلك النّبيّ صلىاللهعليهوسلم العقبة وكان ذلك في ليلة مظلمة فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة ، وكان النبي قد أمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها ، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها. فبينما النبي يسير في العقبة إذ زحمه المنافقون فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه ، فصرخ بهم ، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم ، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي ، واختلطوا بالناس ، فصار حذيفة يضرب الناقة فقال له النبيّ : «هل عرفت أحدا منهم». قال : لا ، فإنهم كانوا متلثمين والليلة مظلمة. قال : «هل علمت مرادهم؟» قال : لا ، قال النبي : «إنهم مكروا وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة فيزحمونني عنها وإن الله أخبرني بهم وبمكرهم» (١) فلما أصبح جمعهم وأخبرهم بما مكروا به فحلفوا بالله ما قالوا بتكذيب النبي ونسبه إلى التصنع في ادعاء الرسالة ، ولا أرادوا فتكه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وما أنكروا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا من الأشياء إلا أغناه الله تعالى إياهم من فضله فإن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النّبيّ صلىاللهعليهوسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة ، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلىاللهعليهوسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى ، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له صلىاللهعليهوسلم مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله فعملوا بضد الواجب ، فوضعوا موضع شكره صلىاللهعليهوسلم إن كرهوه وعابوه (فَإِنْ يَتُوبُوا) من النفاق كما وقع للجلاس بن سويد فإنه تاب وحسنت توبته (يَكُ) أي التوب (خَيْراً لَهُمْ) في الدارين (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي يعرضوا عن التوبة (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم ، واغتنام أموالهم لأنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب فيحل قتالهم (وَالْآخِرَةِ) بالنار وغيرها من أفانين العقاب (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) مع سعتها (مِنْ وَلِيٍ) أي حافظ (وَلا نَصِيرٍ) (٧٤) ينقذهم من العذاب
__________________
(١) رواه البيهقي في دلائل النبوة (٥ : ٢٥٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (٣ : ٢٥٩).