أو شرا ، ويراه رسوله باطلاع الله إياه على أعمالكم ، ويراه المؤمنون بقذف الله تعالى في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المفسدين فإن لعملكم في الدنيا حكما ، وفي الآخرة حكما. أما حكمه في الدنيا فإنه يراه الله والرسول والمسلمون ، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة ، وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا ، والعقاب الشديد في الآخرة ، وهذا ترغيب عظيم للمطيعين وترهيب عظيم للمذنبين. وفي الخبر : «لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان» (١) (وَسَتُرَدُّونَ) بعد الموت (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).
والمراد من الرد تعريف عقاب الخزي والفضيحة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) في الدنيا أي فيعرفكم أحوال أعمالكم من خير وشر فيجازيكم عليها لأن المجازاة من الله تعالى في الآخرة لا تحصل إلا بعد التعريف ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «مرجئون» بهمزة مضمومة وبعدها واو ساكنة. والباقون «مرجون» بدون تلك الهمزة أي ومن أهل المدينة قوم من المتخلفين غير المعترفين مؤخرون عن قبول التوبة (لِأَمْرِ اللهِ) أي لحكمه.
قال ابن عباس رضياللهعنهما : نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار. فنزل قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) فوقف الرسول أمرهم بعد نزول هذه الآية خمسين ليلة بقدر مدة التخلف ـ إذ كانت غيبته صلىاللهعليهوسلم عن المدينة خمسين ليلة ـ ونهى الناس عن مجالستهم ، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن أهاليهن لأنه لما تمتعوا بالراحة في المدينة مع تعب غيرهم في السفر عوقبوا بهجرهم تلك المدة فلما مضى خمسون يوما نزلت توبتهم بقوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) [التوبة : ١١٧] وبقوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [التوبة : ١١٨] (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وهذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم ، وهؤلاء القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو ولم يحكم الله بكونهم تائبين بل قال : إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، فلعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة ، وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم ، فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية ، وعند
__________________
(١) رواه الحاكم في المستدرك (٤ : ٣١٤) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٥٣٣٥) ، والسيوطي في الدر المنثور (١ : ٧٨).