الإنسان مجبول على النسيان والملالة ، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال ، وترك شكرها فذلك ظلم ، وإن لم ينسها فإنه يملها فيقع في كفران النعمة ، وأيضا إن نعم الله كثيرة فمتى حاول الإنسان التأمل في بعضها غفل عن الباقي. (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) أي مكة (آمِناً) من الخراب ومن الخوف لمن التجأ إليه (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٣٥) أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام ومن البعد عن عبادة الأصنام. أو المراد أعصمنا من الشرك الخفي وهو عند الصوفية تعليق القلب بالوسائط وبالأسباب الظاهرة (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي إن الأصنام ضلّ بهن كثير من الناس أي لما حصل الإضلال عند عبادتها نسب إليها (فَمَنْ تَبِعَنِي) في ديني واعتقادي (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي فإنه جار مجرى بعضي لقربه مني (وَمَنْ عَصانِي) أي خالف ديني (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٦) أي فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي بعض ذريتي إسماعيل ومن سيولد له (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي في واد ليس فيه زرع (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي المعظم الذي يهابه كل جبار أو الذي منع من الطوفان وهو مكة شرفها الله تعالى فلعله قال ذلك باعتبار ما سيؤول إليه أو باعتبار ما كان (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي يا ربنا إنما أسكنت قوما من ذريتي وهم إسماعيل وأولاده في هذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة نحو الكعبة (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إلى ذريتي شوقا إليهم بنقل المعاشات إليهم بسبب التجارات بالنسك والطاعة لله تعالى.
وقرأ العامة «تهوي» بكسر الواو ، وقرأ أمير المؤمنين علي ، وزيد بن علي ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، ومجاهد بفتح الواو أي تحبهم. وقرئ على البناء للمفعول أي اجعل قلوب بعض الناس ممالة إليهم ، (وَارْزُقْهُمْ) أي ذريتي (مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧) تلك النعمة فإن إبراهيم عليهالسلام إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلاة وأداء الواجبات (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) من الحاجات وغيرها فلا حاجة بنا إلى الدعاء ، إنما ندعوك إظهارا للعبودية لك وافتقارا إلى ما عندك (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٣٨) وهذه الجملة من كلام الله تعالى تصديقا لإبراهيم عليهالسلام ، وهي اعتراض بين كلامي إبراهيم ، فالوقف على «نعلن» حسن كالوقف على «في السماء» (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أي حال كوني بعد الكبر (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). روي أنه لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة ، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٩) أي لمجيب الدعاء وهو عالم بالمقصود (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي مثابرا عليها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل بعض ذريتي كذلك (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) (٤٠).