وحي من الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي لا يصدقون أنها من عند الله بل يسمونها افتراء أو معلمة من البشر (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) إلى طريق الجنة (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤) أي بل يسوقهم إلى النار (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي إن المفتري هو الذي يكذب بآيات الله ويقول : إنها افتراء ومعلمة من البشر وهذا رد لقولهم : إنما أنت مفتر وقلب للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٠٥) أي الكاملون في الكذب إذ لا كذب أعظم من تكذيب آيات الله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) أي من تلفظ بكلمة الكفر من بعد إيمانه به تعالى فعليه غضب من الله. «فمن» موصولة مبتدأ وخبره محذوف لدلالة الخبر الآتي عليه (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على التلفظ بالكفر فتلفظ به بأمر لا طاقة له به كالتخويف بالقتل وكالضرب الشديد ، وكالإيلامات القوية مما يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي والحال أن قلبه لم تتغير عقيدته وهذا دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي ولكن من اعتقد الكفر وانشرح به قلبا (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٦).
روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية على الارتداد فربطوا سمية بين بعيرين وضربها أبو جهل بحربة في فرجها ، فماتت وقتل ياسر. وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل : يا رسول الله إن عمارا كفر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه» (١). فأتى عمار رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يمسح عينه.
وقال مالك : إن عادوا لك فقل لهم ما قلت فنزلت هذه الآية (ذلِكَ) أي الكفر بعد الإيمان ، (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي بسبب أنهم رجّحوا الدنيا على الآخرة (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١٠٧) أي وبأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك القبائح (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فأبت عن التأمل في الحق وإدراكه (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٠٨) عمّا يراد بهم في الآخرة من العذاب ، فلا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر عواقب الأمور (لا جَرَمَ) أي حق (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٠٩) حيث صرفوا أعمارهم فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) إلى المدينة أي ناصرهم (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي عذبوا. نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة أخي أبي جهل من الرضاعة أو من أمه وفي أبي
__________________
(١) رواه أبي نعيم في حلية الأولياء (١ : ١٣٩) ، وابن حجر في فتح الباري (٧ : ٩٢) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٣٥٤٠) ، والواحدي في أسباب النزول (١٩٠).