أي واذكر للذين افتخروا بأموالهم على فقراء المسلمين (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صفتها العجيبة في فنائها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أي اختلط بعض أنواع النبات ببعضها الآخر بسبب هذا الماء أي صار النبات في المنظر في غاية الحسن (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي فصار النبات بعد بهجتها يابسا مكسورا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) أي تفرقه ولم يبق منها شيء. وقرأ حمزة والكسائي الريح بالتوحيد (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (٤٥) أي قادرا على الكمال بتكوينه أولا وتنميته وسطا وإبطاله آخرا ، فأحوال الدنيا كذلك تظهر أولا في غاية النضارة ، ثم تتزايد قليلا قليلا ، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يفرح به (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقراض فيقبح بالعاقل أن يفتخر به (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي أعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبدا من الصلوات الخمس وأعمال الحج وصيام رمضان والطيب من القول (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) أي في الآخرة (ثَواباً) فتعود إلى صاحبها (وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦) فينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يرجوه في الدنيا ، لأن صاحب تلك الأعمال يأمل في الدنيا نصيبه من ثواب الله في الآخرة. وللغزالي في هذا وجه لطيف فقال : روي أن من قال : سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال : والحمد لله صارت عشرين فإذا قال : ولا إله إلا الله صارت ثلاثين ، فإذا قال : والله أكبر صارت أربعين.
وتحقيق القول في ذلك أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال : سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزها عن كل ما لا يليق به ، فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة ، فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الله تعالى مع كونه منزها عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال ، فإذا قال : مع ذلك ولا إله إلّا الله فقد أقر بأنه ليس في الوجود موجود منزه عن كل ما لا ينبغي مبتدئ لإضافة كل ما ينبغي إلا الواحد فإذا قال والله أكبر ومعنى أكبر أي أعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة ، فكانت درجات الثواب أربعة ، فهذه الكلمات الأربع تسمى الباقيات الصالحات (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي واذكر لهم حين نسير أجزاء الجبال عن وجه الأرض بعد أن نجعلها غبارا مفرقا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «تسير الجبال» بالتاء الفوقية بالبناء للمفعول وبرفع الجبال. (وَتَرَى الْأَرْضَ) خطاب لكل أحد. وقرئ على صيغة البناء للمفعول (بارِزَةً) أي ظاهرة ليس عليها ما يسترها من جبال وأشجار وبناء وحيوان وظل وبحار (وَحَشَرْناهُمْ) أي جمعنا الخلائق إلى الموقف من كل أوب للسحاب (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ) أي لم نترك من الأولين والآخرين (أَحَداً) (٤٧) إلا وجمعناهم لذلك اليوم (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) كعرض الجند على السلطان