لحَقن دماء الأُمَّة ، ويتحقَّق مِن ذلك عدم ترك الأحقاد ، والضغائن تعود إلى تمركزها في النفوس ، وهي تنشر القتل والخراب ، والدمار بين القبائل المُتناحرة ، وهي بذلك تتلهَّى عن العمل المُنتج والخير الذي يعيش به المُجتمع ، ويُحقِّق حضوره السليم ، كما وأنَّ الحرب ـ بحَدِّ ذاتها ـ تشقُّ الأُمَّة إلى عِدَّة جبهات مُتصارعة ، ليكون الربح هو الأكبر والأجلَّ ، في تحاشي وقوع الحرب ، حتَّى تبقى الأُمَّة كلُّها في اتصالها المفتوح ، وبذلك تتمُّ لها الدورة الحياتيَّة المُكمِّلة ذاتها بذاتها ، مِن دون أيٍّ مِن العراقيل ، التي هي سَمُّ القطيعة بين إخوة هُمْ وحدة في العِرق ، والأرض ، والمصير ، وهُمْ قوَّة رائعة في التحقيق الإنساني ، المُنتمي إلى وحدة عروبيَّة حقَّقتها الجزيرة الأُمُّ عبر التاريخ السحيق ، بتوزيع أبنائها أفواجاً أفواجاً ، على اليمين وعلى اليسار ، فإذا هي عالم مربوط بألياف مِن العظم واللحم والدم ، تجمع بها هذا الإنسان المُجتمعيِّ إلى أصل واحد ومصير واحد ، وإنتاج فكريٍّ ـ روحيٍّ ـ واحد ، كانت نتيجته العظيمة الواحدة مُجمعة في هذا الشعاع الذي ضاء عليها ، فإذا هو هذا العظيم المُستدرج منها والمُستقطب إليها ، واسمه الأمين والرسول ، والنبي محمّد.
وهكذا ولِدت الأُمَّة مع محمّدها مِن جديد ، في بعثٍ جديد ، وظهورٍ جديد ، ووعيٍ جديد ، وإدراكٍ جديد ، بأنَّها واسعة وسع أرضها ، وعميقة عُمق تاريخها ، وجليلة جلال إنتاجها المُتمثِّل الآن بنبيِّها ورسولها المُبشِّر بها قوَّة مجموعة مِن ضلوع الحَقِّ ، لتبقى أبداً أُمَّة مُفتِّشة عن جوهرها الإنسانيِّ العريق ، والذي تجده دائماً في وحدتها العاقلة.
هل هو قليل وزهيد ما أدركه العظيم محمد مِن أجل أُمَّته ، التي فاضت بإنسانها مِن أرض الجزيرة الأُمِّ ، وراحت تملأ الدائرة حولها مُنذ عشرات آلاف السنين مِن حياة إنسانها على الأرض؟ فإذا الأصقاع كلُّها مربوطة بهذا الفيض الإنسانيِّ الواحد ، أكان ذلك في خواصر الأرض التي تنهل ريَّها مِن النابعين الرافدين فيها : دجلة والفرات ، أم كان في تلك الخواصر الشبعانة مِن جود بردى في غوطة الشام ، أم كان في تلك الأُخرى الساجدة وهي تَرضع الخير مِن أحضان النيل إله مصر الأكرم.