إنَّها الأُمَّة التي تربَّعت في أشواق محمد ، وراح يجمعها بالرسالة ، ولقد وسَّع الرسالة مِن أجلها ، وجعلها تفيض بقيمة إنسانيَّة مُطلقة ، تعتنقها وتَدين بها كلُّ أُمَّة أُخرى ، وهكذا تتوسَّع الارتباطات المُتجانسة بإدراك الحَقِّ ، وتنظيف النيَّات مِن لوثات السوء ، وينتفي ميل التعدِّي على حقوق الغير ، وبذلك تتروَّض العَلاقات بين أُمَّة واحدة ، بزخم الرسالة التي هي فيض نور وهداية للإنسان.
ليس التوسُّع هذا أكثر مِن شاردة ، تُبيِّن أنَّ لُحمة الأُمَّة حصيلة طبيعيَّة جغرافيَّة ـ تاريخيَّة ـ ، وأنَّها عامل إنمائيٌّ في ربط الإنسان بمُحيطه الفاعل ، مِن أجل تعزيز إنتاج تُوفِّره الوحدة المُتضامنة باستقرارها وباشتراك مصيرها. إنَّ أعز أُمَم الأرض هي الأُمَّة المُطمئنَّة في وحدتها وتلاصقها بأرضها المَعطاء ، وتجانسها بأفكارها ، وتضافرها في إنتاجها ، وتلاحمها في حضارتها وثقافتها وانفتاحها في إنسانيَّتها المُنتجة حقَّاً وصدقاً. إنَّها الأُمَّة المثاليَّة التي لعبت دوراً عظيماً في تشوُّق الرسول محمد ، وكانت هي التي تمنَّى لها سويَّة مِن هذا الطراز ، وكانت هي التي تخصَّصت لها الرسالة ، وكانت هي القضيَّة الكبيرة التي توازي وجوده كإنسان. فإذا كانت الرسالة لتعيش ، فلابُدَّ لها مِن إنسان يعيش في أُمَّة تعيش. إنَّها محور الكلام : الرسالة هي الأُمَّة ، والأُمَّة هي الرسالة ، والاثنتان هما إنسان محمد ، وإنسان محمد هو عجينة الله في تراب الأرض ، وهي الحَقُّ العدل ، وهي إنتاج الجمال في الوجود الأمثل.
مِن كلِّ هذه المعاني في أصالتها تكوَّن نهج عليٍّ ، ليكون أساساً في كلِّ معركة إنسانيَّة يتَثبَّت بها مُجتمع الإنسان. أمَّا الحسن ، وهو مُتابعة وتكميل مُباشر لنهج أبيه ، وهو الذي انتقل إليه الإيمان بأنَّ وحدة المُجتمع منعته وإشراقة رسالة جَدِّه ، فإنَّه بادر إلى استيحاء النهج ، وبدلاً مِن اعتماد السيف ، وهذا السيف الآن يقصف الأَجَمة مِن دون أنْ يفعل في الدفاع عن مصالحها ، راح إلى اعتماد وسيلة أُخرى هي التخلِّي عن الحُكم كأداة تؤجِّج ناراً تُحرق ولا تُدفئ ، وانشأ صُلحاً فيه بَرد السلام ، يجمع قطر البصرة إلى قطر الشام ، ويُزيل قلقاً يُخيِّم على كلِّ قطر مِن الجزيرة الأُمِّ حتَّى وادي النيل ... لقد قَدَّم الأُمثولة القُدوة البيضاء ، بأنَّ التخلِّي عن حُكم لا يقدر أنْ يخدم أمن الأُمَّة بلْ يُفقرها ، ويُفتِّت مِن لُحمتها ، ويدمغها بالحِقد