الحسن : ـ لا يفوتني معنى صمتك ـ يا حسين ـ ولكنِّي أُدرك أنَّك فهمت مغزى قبولي بوثيقة الصلح ، أنا لم أُنشئ صُلحاً مع مُعاوية مِن أجل مُعاوية ، ولكنِّي خفت على أهل البيت مِن الانقراض السريع ، وأشفقت على الأُمَّة مِن هدر دمها وتفسيخ لُحمتها ، وتخلَّيت اليوم عن كرسيٍّ حتَّى يبقى لنا دِخر في الأُمَّة تُفتِّش به عنَّا بعد كلِّ أزمة خانقة تشتدُّ عليها ، ستعلم الأُمَّة أنَّ صراعها طويل مِن أجل الحياة ، وأنَّ نهجنا في سبيلها هو مادَّة الصراع ، وأنَّ الرسالة ذاتها هي عنوان الحَقِّ فينا ؛ لأنَّها وحدها هي القضيَّة.
٦ ـ شُّعلة الفشل وعهد الحسين :
يبدو أنَّ الفِضَّة الخالصة في مَعدن الحسين لم تنته إلى التحلِّي ببريق النضار ، فبقيت صامدة في عريها الأبيض إلى أنْ تأتي الشمس فتكسوها بالنضار ، ولا الخَمرة البكر الهاجعة في دَنِّه قد شبعت مِن التملِّي مِن عُتمة شجنها تحت الأختام ، فلبثت في شوقها الصامت إلى أنْ يهدر الليل سكينته السوداء ، فتَسكب في فَمْ الصبح حمياها اللاهبة.
بهذه الصورة التعبيريَّة تراءى لي أنْ أختم فصل المُعاناة ، في تعاقبها وتلاحمها على نفسيَّة الحسين ، مُنذ طفولته الأُولى إلى هذا العهد المُتماسك برجولته ، المُطلَّة به على كهولة وَشَمَتها الأحداث الثقيلة بوَشْم عزيز المعاني وفريد التميُّز. إنَّ السنوات العشر الأخيرة والمفتوحة في حياته ، ابتداء باللحظة التي شاهد بها أباه يهوي إلى الأرض ، كأنَّه طَود ما قدرت أنْ تثبت تحته قواعد الصخور ، فتَزحلق عنها وسقط في الدويِّ الذي ما فتئ يُزلزل في نفسه زلزاله الهادر ، وانتهاء باللحظة الثانية التي سلخته عن أخيه الحسن ، الذي قدر أنْ يُغرقه في لُجَّة الصمت رجل اسمه مُعاوية ، بعد أنْ سكب في ريقه قَطرة مِن حُلقوم أفعى ، كانت مجالاً لتأمُّلٍ صامتٍ صمت الليل