البهيم ، لفَّه بكآبة موصولة بكلِّ كآبةٍ أُخرى عاناها في فترات مُتتالية ومُتمادية عليه ، مع غياب جَدِّه عن منبر المسجد ، فغياب أُمِّه عن بَهجة البيت حاملة كلِّ النَّكَد ، فغياب أبيه عن تركين الإمامة ، إلى غياب أخيه المختوم بالسَّم! إنَّها كآبة طالته مُنذ أكثر مِن خمسين سنة ، وبنته بناءً نفسيَّاً مُعمَّقاً ، بالمعاني الناتجة مِن ذات الاحتكاك بها مع تقدُّمه بالعُمر ، واجتلائها مِن مَدَرها في واقع الأحداث الملونة بالمقاصد المدروسة ، والمرصوصة بالنيَّات المُبيَّتة ، والمُتلاعب بها بدهاء وفَنٍّ ، فإذا هي كآبة مُتولِّدة مِن واقعٍ حيٍّ ، ولكنَّه مُرَّ المذاق مِن هول ما راحت تتجمَّع فيه هموم وهواجس أضحت جبالاً تزحف عليه زحفاً مُهدِّداً بالسحق المُدمِّر.
مُنذ أنْ غاب جَدُّه مِن تحت عينيه ـ مُنذ خمسين سنة ـ وحتَّى هذه اللحظة اليائسة مِن عُمره ، وهذا الواقع المُرُّ يزداد تذوُّقاً به مع كلِّ فهمٍ كان يوسِّعه له التقدُّم بالعمر ، ويجلوه التذوُّد مِن الأحداث ، بالإدراك ـ إنَّه الواقع المأساة ـ وما تخلَّى لحظةً واحدة مِن ترابطه ، وتماسُكه بالحلقات التي تألَّف منها عموده الفقري ، ابتداءً مسرحيَّاً بأبي بكر المُلقَّب بالصديق ، وانتهاء مُخزياً بهذا المدعوِّ يزيد المعروف بالزنديق! وتمَّت فصول المأساة بعزل عليٍّ عن الكرسيِّ المُخصَّص له ، مِن عهدٍ إلى عهدٍ إلى عهدٍ ، حتَّى تمَّ به الوصول المُسمَّم الجوِّ ، والمُقلَّم الأظافر ، وحتَّى تمَّ تغيُّبه عن الساحات. أمَّا المشاهد التي عمَّرت بها المأساة ، فهي التي تمَّ إخراجها بالتذليل والتنكيل ، والسحل والقتل ، والتقزيم والتوهيم ، والتنويم والتغريم ، والتسميم والنَطِّ على ألف حبل وحبل ، وكلُّها مِن أجل ترسيخ رجل مِن بني حرب على كرسيٍّ ، تنحل الأُمَّة كلَّها حتَّى يبقى هذا الملك إلى أبد الدهر. لقد قصفت الأحداث ـ في مشهدٍ مِن مشاهد المأساة ـ عمر أُمِّه فاطمة ، وهي تضحك وتهرج المأساة ، وقصفت الأحداث ـ في مشهد طويل مِن مشاهد المأساة ـ عمر أبيه عليٍّ ، وهي تضحك وتهرج المأساة ، وقصفت الأحداث ـ في مشهد جانبيٍّ آخر مِن مشاهد المأساة ـ عمر أخيه الحسن ، وهي تضحك وتهرج المأساة ، وقصفت الأحداث ـ في مشاهد طويلة مِن المأساة ـ زهو الأُمَّة ، ورقصها الناهد بالحياة وهي تضحك وتهرج المأساة!!! وها هي الأحداث الآن ـ وقد وصل إليه الدور