ـ ٥ ـ
لم يكن عجباً أنْ لا يُدرك الوليد بن عُتبة مرحلة واحدة مِن مراحل البُعد ، التي ساح فيها الحسين ، لقد كانت سياحات الحسين وليدة مُعاناة غزيرة تعمَّقت نفسه وتلوَّنت بها مِن حِسٍّ إلى حِسٍّ ، ومِن إدراكٍ إلى إدراكٍ ، أنَّى لابن عُتبة أنْ يسبر غوراً مِن أغوارها ، وإنْ يكن جاراً له في المكان والزمان ، يكفي أنَّ نفسيَّة ابن عُتبة إنَّما هي منسوجة على نول سفيانيٍّ ، لا يطمع في الدنيا إلاَّ أنْ يسلبها سلباً ، لا سِيَّما إذا وقعت في عِبٍّ ينتمي إلى جُبٍّ طالبيٍّ. لقد كان الحِقد حَدَّاً تاريخيَّاً فاصلاً بين هذين البيتين ، القريبين والشهيرين في أصلاب الجزيرة ، ولم يتوفَّق حتَّى الرسول الكريم ـ المُرتبط الانتماء بهما ـ أنْ يمحوه ويُخفي أثره مِن النفوس ، لا بالرسالة والتبشير ، ولا بالقُدرة التي كانت تسنح بها الظروف في المُناسبات العديدة ، مُنذ فتح مَكَّة الذي تحكَّمت فيه الأصنام ، وتمَّ الصُّلح والوئام بين جميع الفرقاء والأخصام ، ولا حتَّى في المُناسبة التاريخيَّة الثانية في الصُّلح الكريم الأبيض ، الذي وقَّع مُعاهدته مع مُعاوية الإمام الحسن.
أقول : لم يكشف الوالي ابن عتبة مغزى القول ، الذي تفوَّه به الحسين أمامه في تلك المُقابلة الخاطفة ؛ لأنَّ قول الحسين كان تعبيراً عن مُعاناة لم يكن للوالي أنْ يُعاني مثلها لا نوعاً ، ولا عُمقاً ، ولا لوناً. أمَّا أنْ يطلب منه تقديم المُبايعة ليزيد ، فذلك نصحٌ منه وتكرُّمٌ في إنالته حرزاً يقيه مِن العطب ، وكان يُدرك تمام الإدراك أنَّ ليس في مقدور الحسين أنْ يُقاوم ؛ لأنَّ سيطرة يزيد هي الفاعلة فوق الأرض ، مِن الشام ، إلى العراق ، إلى الجزيرة حتَّى مصر ، ولا يزال مَجْدُ مُعاوية ناشراً هيمنته على الساحات ، والدليل على ذلك هو تهديد العصيان بضرب العُنق ، قد يكون الوالي ابن عتبة متحلِّياً بخَلجة ما مِن عريكة طيِّبة ، علَّل الحسين بها حتَّى يُبايع ، ولكنَّ اتِّكاله كان على واقع الحال ، الذي يُجبر الحسين على المُبايعة مِن دون اللجوء إلى عُنف يستغني عن افتعاله ، لهذا سمع الحسين يتلفَّظ بمُبايعة فصدَّقها دون أنْ يُفصِّل منها معنى آخر يتلاعب به الرمز ، كما وأنَّ هذا النوع مِن الرجال السطحيِّين أو