الأُمَم الأُخرى ، وأنَّها ليست خزائن زاد ليوم واحد ، بلْ إنَّها خزائن للأجيال الآتية ، تأخذ منها أُمَم الأرض ما يجعلها قويمة في مسيرتها الإنسانيَّة ، ومُتنعِّمة في جِنان الحَقِّ. أمَّا أُمَّته التي أنجبته مِن خاصرتها الكريمة ، فستبقى فخورة بانتسابه إليها ، وسيبقى مَعاذها وهي تنتسب إليه ، تتناول زادها مِن خزائنه كلَّما مدَّت أصابعها إليها.
عظيم هو جَدِّي ـ يُتابع الحسين تأمُّلاته ـ لقد قام بمُهمَّته الجليلة ورحل! ولم تكن مُهمَّته ـ قبل أنْ يرحل ـ انتصار بني طالب على بني حرب ، في معركة قبليَّة يقصف فيها سيف ، بينما يزهو الآخر لأنَّه مرويٌّ بالدم ، بلْ إنَّها كانت مُهمَّة انتصار قضيَّة مِن قضايا الوجود ، في معركة إنسانيَّة لا تنتهي إلاّ بانخساف الأرض مِن مدارها ، وهبوط الشمس في عُتمة الانطفاء ، لقد كانت الأُمَّة ميدانه الأبعد والأخلد ، في المعركة التي انتصر بها وتركها مفتوحة تُعالج الأُمَّة فيها أُمورها الحياتيَّة ، وتنتصر على كلِّ ما يعترض سبيلها مِن مخاوف ، ومخازي ، وهبوط في حُفر يُعمِّقها المرض ، والوهن والوهم الأعور. لقد ترك المعركة ورحل ، وهل كان مِن المُمكن أنْ يبقى ولا يرحل ، حتَّى يُبعد عن الأُمَّة وقوعها في زَيغ لا بُدَّ أنْ يحصل؟ ولكنَّ المُستحيل هذا هو المُتدارك ، فالقضيَّة ملفوفة بدستورها ، تعود إليه الأُمَّة تستجْلي منه كيفيَّة بعثها وارتدادها إلى حقيقة التصويب ، وهذه هي روعة القضيَّة المُتكاملة ببنودها العقليَّة ، الروحيَّة ، الإنسانيَّة ، الحياتيَّة ، المُتكافئة في الميزان ، سيرحل النبي ـ والحالة هذه ـ ولقد رحل ، والقضيَّة هي ذاتها ، ينتصر بها وفيها ، وإنْ يكن قد غاب لأنَّها هي وحدها عنصر البقاء.
كلُّ واحد بدوره مِن أهل البيت تناول الرسالة ، وبنى منها قضيَّة ما كانت إلاَّ فرعاً منها ، وهكذا رحل كلُّ واحد منهم وهو لا يزال باقياً تلتجئ إليه الأُمَّة ، لتأخذ منه حَيطة تستعيض بها في مَكمن الضعف الذي أصابها أو يُصيبها ، كأنْ تَشعر أنَّ تنكُّبها عن الأخذ بالعدل والمُساواة ، أو النزاهة والصدق ، أو العِفَّة والبراءة راح يُنقص مِن قيمتها ويُعرِّضها لبعض الارتجاجات. فعلاً كما حصل في عهد عثمان بن عفَّان ، وكما راح يحصل في عهد مُعاوية بن أبي سفيان فتتذكَّر عُليَّها المُستقلَّ بجلالته ، وتأخذ مِن