لقد علَّمه جَدُّه كيف يكون البذل الصادق مادَّة لا تنضب ، بلْ تزيد مع كلِّ يوم يشتدُّ فيه الأخذ منها ، والأخذ منها هو المُجدِّد والمولِّد في غزارتها والشاهد على طيب مذاقها ، وجودة حَدِّها في الصفاء ؛ مِن هنا يكون البذل وليد طاقات فِكريَّة ـ نفسيَّة ـ روحيَّة ، موجَّهة لمصلحة الأُمَّة ، ومُعبِّرة عن حاجاتها في واقع المُتطلَّبات المُلازمة لها ، والتي هي جديدها الدائم في سنة التقدم والتطوُّر ، وعدم القَبول بأيِّ عاملٍ مِن عوامل التنقيص ، مِن الزخم المُتدرِّج بها إلى المَراقي الزاخرة بعزم الحياة في الوجود الإنسانيَّ الكريم السمات.
والحقيقة أنَّ المُعاناة الطويلة التي اشتغلت بالحسين شُغلها الكبير ، قد وصلت به إلى هذه الحدود المُقرَّرة كيفيَّة التصرُّف ، ونوعيَّة المُبادرات الفرديَّة ، تتميماً للمُهمَّة الجليلة التي حدَّدت إطارها وتوجيهها ، وبروزها في كلِّ مجالات حياته ، إرادة جَدِّه المُنبثقة مِن إرادة شاملة ، وغير موصوفة إلاَّ بدلالاتها التي هي سمات غير مقروءة إلاَّ بإيحاءات ، تلقَّطت بها كلَّها جوارحه التي ما استراحت مليَّاً ، إلاَّ في استسلامها لكلِّ المفاعل التي فجَّر بها جَدُّه كلُّ تيَّارات فِكره ونفسه وروحه ، فإذا هو ـ أبداً ـ قطب مُمغنط بها ، ومُستكين إليها ، وحاضر الذهن لاستنباط كلِّ ما يُعزِّز ذِكره ومشيئته ، ويُتمِّم شوقه في إمداد الأُمَّة بكلِّ ما يرفع شأنها ، ويدفع بها إلى العِزَّة والكرامة ، لأنَّها هي الصندوق الفَخم الذي نبضت فيه رسالة حدَّدت الله في الإنسان.
ولم يتوانَ الحسين مُطلقاً عن الإدراك ، بأنَّ جَدَّه لا يستوعب ولا يستردُّ مِن غيابه إلاَّ في امتداده ـ هو الحسين ـ عِبر الإمامة الممدودة مِن أبيه إلى أخيه فإليه ، على أنْ تكون الخَطَّ الضابط والمُستوعب كلَّ هذه الأشواق ، التي انصبَّت ضماناً معصوماً مِن الضعف والوهن لصيانة الأُمَّة ، وهي الخزانة المجيدة لعُنفوان هذا الإنسان ، الذي احتكره النبي وشدَّه إلى صدره برسالة هي صُلبه وركيزته وعزمه الشبعان مِن الوجود. إنَّ الإمامة هذه هي كلُّ المقصد السَّنْيِّ في مفهوم الحسين ، وهي سِرُّ جَدِّه فيه ، وسِرُّه هو في جَدِّه ، وأنَّ أهل البيت هُمْ لُبُّ هذه الكينونة في كُنهها المحدود والمقصود.