الأحضان
ليست قليلة تلك السنوات السِّتّ ـ وهي التي حفرت في نفس الحسين حَفرها البليغ ـ لقد كان ينتقل فيها ، مُنذ أنْ تكحَّلت عيناه بالنور ، مِن حِضن إلى حِضن ، في دوامة مِن الحُبِّ والحَنان ، قَلَّ أنْ تمتَّع بمِثل نوعها طفل مِن أطفال مُجتمع الجزيرة في تلك الأيَّام ، لم يكن حِضن أُمِّه فاطمة رفيقاً به بمقدار عِزٍّ نظيره ، لو لم تكن ابنة أبيها محمد ، ذلك الذي انسكب في ابنته هذه انسكاب الحُبِّ بالحُبِّ ، والعِشق بالعِشق ، والرضى بالرضى ، كأنَّه سماء لا تنزل إلاَّ في سماء ، أو كأنَّه شوق لا يتبرَّج إلاَّ بذاته ، أو كأنَّه وَهج لا يتأجَّج إلاَّ في ضرامه ، ولا يتبرَّد إلاَّ في كلِّ مَعين مِن مَساكبه. لم يصف قلم بعدُ حُبَّ أبٍ لابنته ، أو حُبَّ ابنةٍ لأبيها ، كالحُبِّ الذي تبادله الرسول العظيم مع ابنته الصديقة الزهراء.
أقول : لو أنَّ فاطمة الرهيفة لم تكن ضِلعا رهيفا مِن قضيَّة أبيها ، لكان شأنها عاديَّاً كشأن أخواتها اللواتي أَمَمْنَ الحياة ورِحنَ إلى أزواجهنَّ يَبنينَ العِشَّ السعيد ـ ولكنَّ فاطمة المجبولة بحنين أبيها ، كانت قسطاً آخر مِن أقساطه التي يُسدِّدها للحياة على صفحة الرسالة التي اندمجت بشوقه ، وعزمه ، وروحه ، في سبيل الأُمَّة التي هو منها ، ومِن أجل جعلها عزيزة وهادية لأُمَم الأرض. لم يذكر التاريخ رجلاً أحبَّ وأكرم مِن عليٍّ على قلب النبيِّ الكريم ، ولم ينزل أحد غيره مِن بيته نزولاً مقرونا به كأنَّه المُلازمة والالتصاق ، وذلك هو التدليل القائم بذاته بغير حاجة إلى أيِّ تفسيرٍ أو تحليلٍ أو تعديلٍ ، بأنَّّه رفيقه الروحيّ ، وربيبه الأمثل ، وتلبيته الخارقة ، وزِناده المشدود مثله بالعزم ، والحَقُّ ، والصدق ، والإخلاص ، وإلاَّ لما