خشبة جَسدها ، وما احتاك به مِن زهيد الشحم والدم ؛ مِن هنا كانت الولادة نحيفة رهيفة ، كالمصدر الذي انزلقت عنه ـ غير أنَّ الأحضان التي سربلته بأكثر مِن دثار ، نشَّطت فيه طاقات عجيبة مِن التدلُّه النفسي الروحي ـ ما شَحَّ انعكاسه على عضلاته وألياف أعصابه ، فإذا هو كأنَّه رشأ يملأ البيت حركة ودلعا ورواء ، وإذا هو أكثر مِن جاذبيَّة شغف بها المُحيط كلَّه ، مِن ساحة الدار التي تُظلِّلها شجرة واحدة اسمها (الآراك) ؛ إلى داخل البيت الذي كانت حيطانه وسقفه ترشح بما لا يعرف مِن أيِّ ضَوْعٍ هو ، لقد راح الفتى يشعر أنَّه دلاَّعة البيت وهزَّته الصغيرة ، وكانت النشوة فيه تحتار مِن أين تأتيها الإشارة ، فبينا يغرق فيها في حِضن أُمِّه ، كأنَّه حرير مُبطَّن بمخمل ، إذا هي ـ في عُبِّ أبيه ـ كأنَّها إعصار يتناحل في نسمة الصبح ، أمَّا في حِضن جَدِّه وتحت عينيه ، الناضحتين بالحُبِّ ، فكأنَّها شعاع دفءٍ هابط مِن كُوَّتين ، هما مِن بهجة الصباح أنقى وأزهى.
وهنالك حِضن رابع كان يتعب وهو يتلقَّط به ليحتويه ، وهو حِضن الحسن أخيه الذي يزيده بالعُمر سنة وعِدَّة أشهُر ، ولم يكن يعرف الحسين أيَّ طعم كان يتلذَّذ به وهو مضموم إلى صدر أخيه ، كأنَّه نَكهة معجونة بسويق لا اسم له ، تلك هي الأحضان التي احتوت الحسين مُنذ أَمَّ الحياة ، وراح يدرج في البيت إلى أنْ تركه جَدُّه الكبير في حِضنٍ راح يُفسِّر له ـ بالتدريج ـ كلَّ معاني الأحضان التي احتوته طفلاً ، وحضَّرته ـ بدوره ـ لأنْ يكون حِضناً يتناول الرسالة إلى صدره ، ويفنخ فيها نفساً مقدوداً مِن صدره المليء بالعُنفوان.
لقد ضاع الحسين في تعيين أيِّ حِضن تدلَّه فيه ، كان أعطف وأرهف مِن الآخر؟ ولكنَّه ـ بالحقيقة البارزة ـ كان مُشتقَّاً منها جميعها على توحيد والتزام ـ لقد ضمَّته جميعها ، لأنَّها كلَّها كانت حدوده في المبدأ وفي صيانة الجوهر ، أنَّه مِن هذه الصياغة الكبيرة التي احتضنها الطالبيُّون الهاشميُّون ، فإذا بها مِمَّن مَرَّ أنَّها في النفس تتفتَّق عن رسالة تفوَّه بها الطالبيُّ الهاشميُّ ، فارتدَّت إلى الأُمَّة العظيمة أمانتها المحفوظة في عقل وجُهد نبيِّها العظيم محمد.