حَجَّة الوَداع
ولن تُفلت حَجَّة الوداع مِن تَمنِّينا ، لو أنَّها لم تكن وداعاً بمعناها الحرفي ، إلاَّ بعد عشرين حَجَّة أُخرى ، على الأقلِّ ، بمعناها المُشتاق إلى إطالة العهد مع صاحب البعث ، وحامل الحَقِّ والهداية ، في سبيل تمتين الحُفر في النفوس ، فينمو عودها أنقى ، وأصلب ، وأثبت في واقع اللمس وترسيخ المُران ، ولكنَّها حصلت كأنَّها الحُلم في صباح تكدَّرت شمسه بمضيضٍ مِن كسوف!
هل كانت حَجَّة الوداع أكثر مِن اسطوانة تخبَّأت فيها وصيَّة؟ ولكنَّ الجماهير الغفيرة الذين امتلأت بهم قافلة الطريق ، بين المدينة ومَكَّة ، ما كانوا يمشون إلاَّ بحَفاء الأمس ـ صحيح أنَّ ولادة جديدة قد كحَّلتهم بنورٍ جديدٍ ، ولكنَّه نور لم يتسرَّب بعد إلى عُمق الحدقة ، ولم تختزنه الطويَّة بعد ، فيُصبح جزءاً منها ـ يا أُمْنَية وهي تضرُّع ـ لو أنَّ حَجَّة الوداع ما حصلت إلاَّ بعد ثلاثين مِن سنوات الهِجرة ، أو بعد أربعين إذا يصحُّ التمنِّي.
أمَّا الوصيَّة في غدير خُمٍّ ، فإنَّها هي التي برزت بثوب الرمز اللطيف ، ما شربت الاَّ عطشها المُقدَّس ... ألم يتوسَّل النبي الكريم ـ وهو الذي توسَّلت إليه مهابات وجلالات ـ وهو يقول : «عليٌّ منِّي وأنا مِن عليٍّ» ، «مَن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللَّهمَّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه» ، «إنِّي مُخلِّف فيكم ما إنْ تمسَّكتم به لن تضلُّوا مِن بعدي ، كتاب الله وعِترتي أهل بيتي ، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض».
تلك هي الوصيَّة ، لقد عطشت بها وإليها حَجَّة الوداع. أمَّا السامعون غدير خُمٍّ ، فإنَّهم هم الذين كانوا يسمعون في صباح الأمس ، وهم جالسون